زلزال في الزنزانة

الأصوات من حولك بعيدة، أنت غارق في ماء بارد لا تعرف من أين أصابك، لا تقدر أن تتحرّك، أو تتكلم. تغيب في عتمة غريبة ثم تجد نفسك فجأة واقفا والضوء المبهر يعمي عينيك لحظة، أخيرا تتضح الصور شيئا فشيئا، يزول الغبَش، وترى الهول.
(تعالوا.. في صوت هون..)
يصيح واحد، فترى عشراتٍ يتدافعون في اتجاه الصوت كأنهم في الحرَم، أنتَ لم تزر مكّة قطّ، كنتَ تراها في التلفاز وتندهش كيف يمشي كلّ هؤلاء الناس دون تصادم، كأنّهم موجة عظيمة تعرف اتجاهها ولا تخالفه.. موجة مهيبة.
اليوم ترى الموجة، بلا كعبة. كيف ركضوا كلهم وما اصطدم بك أحد؟ هل شفّت عظامك ورقّت من الجوع وبرد الزنزانة حتى صرتَ خفيّاً؟
تنظر حيث وقفوا، إذاً.. هذه الخرابة كانتْ بيتاً، هدّته البراميل الساقطة من السماء. الكلّ يحفر وينبش بالأيدي والأظافر التي ذابتْ وراحتْ تدمي، لا أحد يتوقّف.. لا أحد ينظر نحوك.
فجأة لا تسمع إلا الصمت، ودقّات قلبك في أذنك، كأنّك نائم عليها وثمّة ما يضغطها. تستدير حول نفسك دورة كاملة على مهل، كيف وقعتْ كلّ هذه البيوت وانمحتْ هكذا؟ هل قذفوا قنبلة ذرّية؟! أو مئة برميل دفعة واحدة؟
البرد، آه من البرد والبلل. فقط لو تعرف من أين يأتي، لو تجد ما تلتحف به.
تفكّر فجأة: كيف خرجتُ من الزنزانة؟ ومتى؟ وكيف لا أجد أحدا من أهلي يستقبلني؟
تعود الأصوات إلى سمعك كمن يرفع صوت الراديو من الخلفيّة إلى المقدّمة:
هزّة هزّة يا شبااااب.. ارجعوا ارجعواااا..

هزّة؟ الآن تفهم، الأرض ترتجف كأنّها قدرٌ يغلي، لماذا؟ أنتَ لم تعرف شيئا كهذا في حياتك.
تنظر للمتهدّم حولك فتراه يتهاوى أكثر، ترى شقوقاً تنمو في الأرض سريعا كعروق اليد. هل هذا ما درسته في الجغرافيا.. زلزال؟!

الموجة البشرية نزلت عن الأبنية الخرِبة، وتجمّعت في الأرض الخاوية، بانتظار انقضاء الهزّة. العيون تتبادل القلق والترقّب. بعض الأيدي تستند إلى بعضها، وبعض من يرتدون السترات الصفراء لا يطيقون صبراً، يصيح واحد منهم بصوت ٍ قاطع:
اذا رح نستنى تخلص بجوز ما يطلعوا!
ويتحرك حيث كان وبيده معول، دون أن يقول أكثر، أو ينتظر أحدا. ودون أن يقولوا شيئا يتبعونه.
هل رآهم من قبل؟ هل يعرفهم؟ لا يذكر.

فتح عينيه فجأة، الآن عرف أن أذنه كانت ملتصقة بباطن كفّه الذي افترشه كمخدّة على أرض الزنزانة المبلولة بماء رشّه السجّان في موعد النوم، ليُمرض السجناء الثلاثين في الغرفة ذات المتر والنصف مساحةً، ذات الرئة، الالتهاب الشعبي، الربو، السلّ، أيّ شيء وكلّ شيء.. يوزّع وسائل الموت كالحلوى.
من ينجو من التعذيب والصعق والحرق والشبح والضرب والجنون والذهان، لن ينجو من هذه. سيموت بشيء ما حتماً، ويفرغ مكانا لسجين آخر ليقضوا عليه.

أراد أن يتقلّب، فسمع عريف الزنزانة يهمس له: لك اشبك جنّيت؟! مو وقتك تتحرّك. استنّى.. نام نام.. بس يخلص وقتك بفيقك.
تذكّر أنّه من أربع سنوات ينام بالدور، كالسردين في العلبة، بالتناوب مع زملاء السجن. تضحكه كلمة زميل، يشعر أنها خارجة من كتالوج ربطات عنق، لم ير مثله في حياته، لكنه يتخيّله بسهولة، من كثرة قراءة الكتب. كان يقرأ بالانجليزية حتى أثناء القصف، يقرأ كل ما يجده وما يمكنه الوصول إليه.


بعد نزوح أهله إلى الشمال السوريّ، اعتاد الهدوء النسبيّ، والقراءة أكثر.
ذات مرّة، أقنع أهله أن صديقه يعرف طريقا لمناطق النظام، سيذهب للبيت الذي لا يبعد سوى مسيرة نصف ساعة على الأقدام من مكان إقامتهم الجديد. كان يجد الأمر (مسخرة)، هذا الخط الفاصل، الخط غير المرئي والمليء بالحواجز والثغرات، يفصل بين الحرّية والعدَم.
كان يردّد: على الأقلّ نحن نملك الحرّية، أما من بقي هناك، فلم يعد يملك حياة أصلا، لقد سرقوا كلّ شيء منهم، حتى الحلم والصوت والشعور.

لم يخطر في باله أنهم سرقوا أيضا: الشرف والضمير.

طبعا لم يرضَ أهله، طبعا حاولوا قدر جهدهم مراقبته، وطبعا.. فشلوا، وخاض المغامرة ونجح في العبور.
وصل إلى البيت، كان فيه قريب لهم مع عائلته. دقّ الباب، فتح القريب، تسمّر مكانه ولم يعرف ما يقول. سأله بخجل رغم أن البيت بيته: ألا تدخلني؟
أفسح له الطريق ولم يبد على وجهه أي تعبير، فقط صاح: عطونا طريق! لتحتجب النساء في الغرف الداخلية.
دخل وجلس وهو يتأمّل البيت والأثاث، لم يتركوه سوى من بضعة أشهر، أين ذهب معظم الأغراض؟
قال مباشرة: جيت آخد كم غرض لأهلي.
نظر القريب نظرة منزعج، سأله: غرض ايش؟
ارتبك من الأسلوب، قال: يعني.. في اغراض لأهلي وكم كتاب بدّي اياهم.
بقي ينظر إليه النظرة المنزعجة، وسأله بنبرة أكثر تشكّكا:
كم كتاااب؟! شلون عبرت الحواجز؟ وشلون رح تشيل معك اغراض وترجع فيهن؟!
أجاب بهدوء: هي شغلتي، بدبّر راسي.
هزّ القريب رأسه، وسأل: والاغراض وين؟ أنا بجبلك اياهن..
ردّ سريعا: لا، أنا بعرف وينن وأنا بدخل بجيبن.
بغضب: شلون يعني تدخل؟ في نسوان جوّة! البيت مو فاضي..
ارتبك الشاب، قال: اي معلش هي غرفة أهلي، يطلعوا منها لأجيب ه الكم غرض.
سكت وراح يرمقه، ثم نهض دون كلمة. سمعه يصيح بالنساء، عاد إليه، وصحبه إلى الغرفة.. وقف لحظة معه بالباب، وقال بحدّة: هالخزانة فيها اغراضنا، لا تفتحا!
هزّ رأسه واتجه إلى خزانة أخرى، وحين فتح الباب استدار ليرى ردّة الفعل، فاجأه أن الرجل ابتعد. أراحه الأمر ولم يفكّر، بدأ يحمل الكتب، مصوغات أمّه الذهبية التي أخفتها بطريقة متقنة، كان يعرف مكانها لأنها أوصته أن يحملها حين خرجوا من البيت، لكنه لم يجد الفرصة إذ غادروا مسرعين. كان منزعجا ويشعر بالذنب طيلة أشهر، أراد أن يعوّض أمه دون أن يخبرها.

في ذلك الوقت، كان القريب قد أنجز مهمته بنجاح. حين خرج من الغرفة، مشى إلى الباب، فلم يستوقفه. أدهشه ذلك، واندهش أكثر حين ودّعه على الباب ودعا له بالسلامة، ولم يسأله ماذا أخذ وماذا ترك. كلّ هذا لم يحرّك فيه سوى الدهشة، وكان هذا خطأه.

استقبلته قوّات النظام عند رأس الشارع، رموه في السيارة، دلقوا محتويات الحقيبة، مزّقوا صفحات الكتب وراحوا يشعلون اطرافا منها ويتسلون بإحراقه، لم ينتظروا حتى يصل الزنزانة. أما الذهب.. فقد ذهب.

هكذا راح ولم يرجع. وانتظر أهله أسابيع طويلة ليعرفوا ما حلّ به، ولم تنفعهم تلك المعرفة سوى حرقة القلب.

أربع سنوات، لماذا لم يمُت؟ لأنّ أجله لم يحِن بعد. لكنّه كان يتساءل أكثر: كيف لم أمُت؟ رغم كلّ الويل والهول.. كيف لم تزهق روحي؟
كان يأمل أن يموت فيَصل الخبر إلى أهله فيرتاحوا، لأنّ خبر (ميّت) خيرٌ ألف مرّة من خبر (ما منعرف عنّه شي).

الآن، راح يرتّب الأشياء في عقله، أصوات التعذيب التي لا تنتهي أبداً، يضعها في الخلفيّة البعيدة، صوت نبضه، في الخلفية القريبة، والتسلسل الزمنّي الذي ينتهي بصبيحة هذا النهار، حين اهتزّت بهم الأرض، لم يفهموا ما حدث إلا بعد انهيار بعضِ قطعِ السقف على رؤوسهم، وكأنّ الزنزانة تريد أن تصير قبراً حقيقياً وتردمهم وتُنهي الأمر.
سمعوا أخيرا وفهموا، زلزال عنيف ضرب جنوب تركيا، أحياء وأناس وقصص انمحت من وجه البسيطة. وشمالُ سوريّةَ الجالسِ في العراء من كلّ شيء إلا من رحمة الله، المنقطعِ من كلّ أملٍ إلا بالله، تساقطَ منطقة تِلو أخرى، حتى تساقطت أبنيةٌ في حلب، حيث هو، والزنزانة.

سمع السفلة يضحكون، يشمتون بالخلق. سمعهم يحكون عن المدن والمخيّمات التي تهاوتْ. ردّد الاسم في سرّه. كان قد نسي الأسماء، حتى اسمه.. صار مجرّد رقم في زنزانة.
اليوم استعاد ذاته، تذكّر أهله، ولسبب ما، عرف أنهم رحلوا. دون أن يخبره أحد.


لما انتهت نوبة نومه، قام عريف الزنزانة يوقظه، ناداه، لم يردّ. هزّه، ما تحرّك. قلبه من جنبه على ظهره، رأى ابتسامةً على وجهه وعينيه نصف مغلقتين. كان أوّلَ ميّتٍ جميل يراه في السجن.

أخرجه الرفاق، وحين جلسوا صامتين، قال العريف: الله يرحمه.. أكيد مات من البرد. حاول يتقلّب وأنا ما خلّيته، شكله كان بردان وبدّه يحرّك دمّه. دمعت عيناه وغلبه البكاء. أحسّ بيد تربت على كتفه، التفت، فسمع صاحبها يقول له: لا يا خَيّ.. أنا كنت نايم جنبه، سمعته عم يقول: يا رب ألحقهم، يا رب ألحقهم.. وربنا استجاب دعوته.
الحمد لله ما تأخّر عنهم.

14.2.2023


ناموسيتك كُحلي

(ناموسيتك كُحلي)، هكذا يُقال هذا المثل عادة، بنبرة ساخرة لائمة، لمن تصحو متأخّرة.
وكأنّ الناموسية التي هي عبارة عن قماش أبيض شبَكيّ خفيف لردّ الناموس، قد حجبت عنها أشعة الشمس فحسبتْ أن الليل ما زال مقيما فتأخرت في الصحو. لكن لماذا على الفتاة تحديداً أن تصحو مبكّرة؟

شخصيّاً: أتنكّد لو صحوتُ بعد التاسعة، لا أعرف متى ولا كيف صار هذا طبعي، في بيت أهلي من المعتاد ألا نتأخر حتى الظهر في النوم حتى في الإجازات ومع السهر، أما في أيام سورية، كنت أصحو في العاشرة أو بعد، لكن حين يكون هنالك موعد، كنت أصحو مع أمي، مثل مواعيد الجوازات، أو نزلة الخالدية لتجهيز مونة الحصرم. وللأسف، كنا نصحو باكرا فنجد الدنيا نائمة! السوق نائم، والخلق نائمون، إلا محلات نادرة جدا. يضايقني هذا الأمر حتى هنا في هامبورغ، معظم مراكز التسوّق لا تفتح قبل التاسعة، وبعضها في التاسعة والنصف، والصيدليات كذلك. وطبعا، اختراع السوبرماركت الذي يفتح أربعا وعشرين ساعة غير موجود. المحالّ التي تفتح باكرا هي المخابز والمقاهي، في السادسة.
أحمد الله أن الماركت القريب ومحلّ أفغاني (حلال) يفتحان أبوابهما في السابعة.
قد يتساءل البعض بخبث: وهل تخرجين في السابعة للتسوق في عتمة وبرد الشتاء؟ بلى أفعل، وهذا أفضل وقت للتسوّق، لأنّي -أوّلا- مصابة بصداع السوق، وهي متلازمة معروفة لمن يصابون بالصداع في الأماكن المليئة بالأضواء والألوان والأصوات والروائح، التي تصيبهم بالتشتّت ويصيبهم الصداع وهم يجتهدون للتركيز في الحصول على مرادهم. البعض يعتبر هذا نوعاً من أطياف التوحّد. وثانيا، هذا الوقت يكون فيه الأولاد نائمون، وأنا أعتقد أن السوق والأولاد لا يصحّ أن يجتمعا في سياق جملة ولا واقع!
وأزيدك من الشعر بيتا، أفعلها في نهاية الأسبوع.. يوم السبت الذي يفترض أن أضحّي بالنومة فيه. يعني أنام للضحى، وليس أضحّي بالنومة فأذبحها، مع أنّ هذا ما يحدث!

اليوم السبت، صحوتُ بعد الثامنة بقليل، انزعجتُ كثيراً لأنّي تذكّرتُ أني نهضتُ في الخامسة لأطفئ المنبّه وأعود للنوم. منبّه الخامسة صباحاً الذي التزمتُ به هذا الأسبوع فأسعدني هذا الوقت كثيراً، ساعتان رائعتان قبل قيام الأولاد للمدرسة. لكنّ الالتزام بروتين مع وجود رضيع ومراهقة ينامان في غرفة واحدة، هو أمر أشبه بالمعجزة. تأخّر نوم الصغير فتأخّر نومي ونمتُ بنفسٍ نكِدة أصلا.
لكنّي حين صحوتُ، قرّرتُ ألا أضيع وقتي في النكد، هكذا صلّيتُ ركعتين، وراجعتُ حفظي من القرآن، وقمتُ بتمارين بسيطة، رتّبتُ الغرفة، والحمّام وجمعتُ الغسيل، وأخذ هذا منّي ساعة تقريبا، وأنا أسمع صوت ابني مع أبيه، يلعب تارة وينقّ تارة.. وأتجاهله حتى أنهيتُ كلّ ما أحتاجه ليتراجع نكدي إلى مستواه الأدنى، وأنا أرى الساعة ما زالتْ قبل العاشرة وقد أنجزتُ بعض (وقتي الخاصّ)، عندها فقط ذهبتُ إليهم.
كان من الصعب جدّاً أن أشرح لزوجي تحديداً أني لا أطيق أن أكلّم أحداً حين أصحو من النوم، لمدّة ساعة على الأكثر، أحتاج أن أرتّب أفكاري بصمت داخل جمجمتي، لكنّه الآن بعد هذه السنوات صار يفهم أنّي لست غاضبة منه حين أفعل ذلك.

وأنا إنسانة طبيعيّة، لستُ روبوتاً، فلا أقدر أن أبقى طيلة الشهر على نظام ثابت، لا بدّ أن نعترف أن الهرمونات والحالة الصحية ووجود شركاء في المسكن، يؤثّر علينا، وأن نتمتّع بالمرونة إلى حدّ ما بخصوص النظام الذي نختاره لأنفسنا. بالطبع أعاني أنا أيضا مثل غيري في نصف الكرة الشمالي، من التفاوت الرهيب الرهيب بين الصيف والشتاء في هذه البلاد، ولكن من رحمة الله أنه تفاوت يحدث بالتدريج على مدار العام كله، وليس دفعة واحدة. فنتأقلم ببطء مع العتمة وقصر النهار، ونذكّر أنفسنا أنها ثلاثة أشهر وستمضي.

أغتاظ حين أسمع طبيباً يتكلّم عن النوم باكراً، وأنّ المدّة التي يجب أن ننامها هي ثمان ساعات يوميّاً، وعن التجارب التي أجروها على عدد من الناس، ووجدوا أنهم ينامون أقلّ من المعدّل الحقيقيّ وأنهم مرهقون. أشعر أنّي أريد أن أمسك بخناقه، من ياقة معطفه الأبيض المغسول والمكويّ، وأخضّ (معلاقه) وأنا أسأله: ألم تفكّر لماذا لا تقول مثل هذا الكلام طبيبة؟. للأسف، يتصرّف بعض الرجال وكأنّ الله خلق كلّ الكائنات على شاكلتهم!
هنالك رجال لا ينامون ويصلون الليل بالنهار في أعمالهم، ورجال يسهرون مع أطفالهم الرضّع الذين تخلّت عنهم أمهاتهم.. نعم، وهؤلاء أيضاً لا يراهم ذلك الطبيب، بل يقول إنّهم (حالات فرديّة)، وهو يخاطب الوضع العامّ الطبيعيّ. ممممم.. وهذا يعني أن أكثر من نصف سكّان الكوكب هم حالات فرديّة!

لم أقتنع في حياتي كلّها بشيء اسمه: تثبيت موعد النوم. ولا أظنّ أن هذا الاختراع كان موجوداً في أي زمن سوى زماننا هذا، زمن البدع العجيبة. فمن زمن بعيد كانت هنالك حروب وكان القادة لا ينامون، وكان هنالك عمل يصل الليل بالنهار، وكان هنالك رضّع لا تنام أمّهاتهم.

كنتُ أيام المدرسة والجامعة، لا أكتب ولا أدرس إلا ليلا في العتمة، وأرى أن النهار موجود للعمل الذي يحتاج حركة. واليوم، صرتُ أكتب في أي وقتٍ كي لا تطير الأفكار، لكني في النهاية، لا بدّ أن أجلس ليلا إلى الحاسوب لأقدر أن أكتب بهدوء، وتركيز.

الآن دعوني أحكي لكم حقيقة مضحكة، نتجتْ عن المساواة التي طالبت بها النساء هنا.
إنّ الذي نتج عن تحقيق تلك (المساواة) أنّنا -كنساء- (أكلنا هوا):
لو كنتِ تصحين مبكّراً في ألمانيا، أهلا بكِ.. التعاسة بانتظارك! بداية من إخراج القمامة وفرزها في حاوياتها المخصّصة، لأنّ سيّارة القمامة تأتي باكرا وقد تفوتك وتبقى القمامة أسبوعا أو أكثر حتى موعد الجمع القادم، بالإضافة إلى القمامة التي نخذها نحن لنوصلها للحاويات الخاصّة. خمّنوا كم حاوية للفرز داخل البيت؟ أربع في المطبخ فقط: العضوية والعادية، البلاستيك والمعادن في حاوية، الأوراق والكرتون في حاوية. ثمّ هنالك تجميع الزجاج لأخذه إلى الحاوية أمام مركزّ التسّوق، وله حاويات بحسب ألوانه، ولا بد أن نغسل تلك المطربات أولا وننظفها، ونزيل منها المعدن أو البلاستيك الملحق بها. وأخيرا تجميع القناني البلاستيكية التي نعيدها للسوبرماركت ونأخذ مقابلها نقوداً.
بعد هذا كلّه قومي يا سيّدتي النشيطة بتحضير الأبناء للمدرسة وتوصيلهم، ثم تسوّقي أغراض بيتك في التخفيضات وقسائم الخصومات، وهذا يعني أن تدوري أكثر من محل، وتخرجي أكثر من مرة في نفس النهار من البيت. إما هذا، أو أن تصلي نهاية الشهر بلا نقود.

وقد يقول قائل: ولكن الرجل الألماني يقوم بهذه المهمات مع زوجته، وليس كالرجل العربي يرمي عليها كل شيء. وأردّ عليه: من قال لك؟. هل جلستَ مع عشرة نساء متزوّجات من رجال ألمان وقلنَ جميعا هذا الكلام؟. باختصار، لا. لا ألماني ولا عربي، الرجل هو الرجل، والمرأة هي المرأة في كلّ الثقافات. والمشكلة هنا بسبب القانون والعُرف ونظام المجتمع.

أما في ثقافتنا ومجتمعنا، فنجد بعض الأهل يقولون: اترك الشاب نائما لأنه -يا عيني- سيكبر ويفتح بيتا ويهلك في الدوام. فنجد الشاب لا كبر ولا فتح بيتا ولا تزوج كي لا يحمل مسؤولية.
بينما البنت لا تشبع نوما لا في بيت أهلها ولا بيتها، ولن أقول بيت زوجها لأن البيت جاء على شرف مجيئها، ولولا أنه تزوجها لما فكّر أن يسـتأجر بيتا ولبقي في دار أهله يخدمونه ببلاش، فالدار دارها، ومع ذلك لا ترتاح فيها.

ثم تُلام النساء لمّا يخرجن للعمل في وظائف بالكاد تغطي رواتبها المواصلات والخادمة والحضانة والأكل الجاهز.
لماذا يعملن إذا؟ غراماً بالشقاء؟!
بل يردن ببساطة الحصول على مال مقابل الجهد، فكلمة (يعطيك العافية) لا يمكن رؤيتها بالعين المجردة ولا بالمجهر ولا تملأ حصّالة! ولا يمكن لها أن تحصل على هذا المال من بقائها في البيت، لأن كثيرات لا يملكن حسابات بنكيّة، ولا يسحبن من رواتب أزواجهن راتبا شهريا. وهذه مهمّتها وحقّها، هو لن يتذكر أن يفعل ذلك لها، فعليها أن تطلب.

أثناء جلوسنا للمائدة، تعجّبت صفية أن أبوها لم يكن يعمل من البيت في هذا اليوم، قالت له: كأنك تعمل كثيراً؟ خرجتَ من السادسة والنصف من البيت ولم ترجع إلا في السادسة مساء،
قال لها: أنا أعمل ثمانيَ ساعات، هذا الطبيعي، أتظنّينه كثيرا؟ أمّك تعمل خمسة أضعاف عملي في المدّة نفسها.
والله إنّني مندهشة مثلكِ أنتِ التي تقرئين، وقد فوجئتُ شخصيّاً بهذا التصريح، الحمد لله، جاءت لنا لا علينا.

أمّا حين أناقش النساء في الأمر، يقلن: لماذا أحصل على مصروف وأدخل في تعقيدات البنوك؟ أنا أطلب منه متى شئت ما أريد. هكذا أفضل، فهو يعرف أني طلبت النقود لسببٍ يراه بعينه. لا أريد أن يحاسبني أو يسألني أين وكيف صرفت.
ولأي شيء تطلبين النقود؟ لك أم للبيت والأولاد؟
= كيف يعني؟
يعني متى آخر مرّة اشتريت قطعة ملابس لكِ لأنها أعجبتك؟ قلم كحل؟ زجاجة عطر؟ حتى لو عندك عشرة غيرها. متى أكلتِ قطعة كعك ولم تغصّي بها لأنك تأكلين دون الأولاد؟ وتكون الإجابة أنها لم تفعل ذلك أبدا.
أين المشكلة في ذلك؟ المشكلة أنها تنفجر فجأة في وجه زوجها وأولادها، والحق يكون عليها لا معها. لأنها سكتت وراكمت ضيقها داخلها. فالمصروف حقّها الشرعيّ، وليس صدقة منه.
وإن كان يخاف الله فلن يرفض، بالعكس.. معظم الرجال يريحه هذا الأسلوب أكثر، وإن كانت تخاف الله فلن تبالغ أو تأخذ أكثر من حاجتها. ثم النساء أشطر عادة في التوفير، وأعرف من في زماننا هذا تأخذ النقود من الزوج لتخفيها في البيت، لأن الزوج (كريم زيادة وإيده فِرطة ومعازيمه كثر).

والخلاصة: أن تبدئي يومكِ باكراً، ليس للبيت ولا الأطفال ولا العمل ولا الدراسة. افعليه لكِ فحسب.. واحصلي على حقّكِ بهدوء دون ارتباك ولا سخط. العالم لن يعاملكِ بعدلٍ أبداً، إلا لو كانتْ معكِ قوّة الله. وهذه لن تحصلي عليها بنومة طويلة وصحوٍ متأخّر ودوّامة من الفوضى والسهر لا تنتهي.

22 جمادى الآخرة 1444
15.1.2023


فليت الغضا يا غالية

تقول نفسي: لن تتمكني من الهروب إلى الأبد.
لكني لا أهرب، أنا أريد أن أكتب، أن ألقي بهذا الحِمل من على كاهلي، وأرمي به على كاهل كلماتي. لكنها تأتي في أوقاتٍ أكون فيها مشغولة اليدين.. عاجزة عن ترك الحاضر والركض لبكاء الماضي.

الماضي؟ هل حقا صرتِ من الماضي؟ كيف اختفت كلّ أفعال المضارعة والمستقبل هكذا من الحديث عنكِ؟
بعض الأحزان أكبر من استيعابنا، بعضها أكبر من البكاء ذاته. لستُ أهرب منه، لكنّي -فقط- عاجزة عنه.

( أَقولُ لأَصحابي اِرفَعوني فَإِنَّهُ::يَقَرُّ بِعَيني أَن سُهَيلٌ بَدا لِيا
فليت الغضا..)
ما أذكره من كلام أمّي، أنّكِ من اقترحتِ عليها اسمي. ربّما كانت هذه هي البداية.
أذكر ما كانوا يقولونه عن شبهي بكِ، أذكر في عرس ابنة خالتي أنّي جلستُ معكِ ومع ابنتيكِ بينما ذهبتْ أمّي مع خالتي تسلّم على بعض المعارف. كانت النساء يسلّمن عليك، ويلتفتن إليّ قائلات: بنتك الكبيرة ما هيك؟
تبتسمين ابتسامتك الجميلة وتردّين: لا، هي بنت اختي ثناء. وتشيرين إلى بناتك.
بعد سنوات طويلة، وأنا هنا في غربتي، كتبتْ لي صديقةُ طفولة لم تعرفكِ من قبل، تقول: مو معقول بنت خالتك أدّيش بتشبهك. وراحتْ تتذكّر الاسم، رحتُ أفكّر وأسألها: فلانة؟ لا.. فلانة؟ لا.. ثم تذكّرتْه فقالتْه، وفاجأتْني، قلتُ بسعادة: حقّا؟ قالتْ: بشكل مو طبيعي، كأنها أختك!

(فَيا صاحِبي رَحلي دَنا المَوتُ فَاِنزِلا::بِرابِيَةٍ إِنّي مُقيمٌ لَيالِيا
فليت الغضا..)
أذكر نانا، في آخر عام لقيتُها، لم تكن تناديني باسمي أبدا، إما أن تناديني باسمك، أو تحاول تذكّر من أنا، أو تقول لي: فينا أختك؟ مشيرة إلى أمّي.. تحسبني أنتِ.
أمّا ماما، فمذ صرتُ أمّاً لبنتين، كانتْ تكلّمني أحيانا على أنها تكلّمكِ، فتقول لي أخوكِ وهي تقصد خالي.. واعتدتُ كلّ هذا، وأحببتُه.

(لقد كان في أهل الغضا لو دنا الغضا::مزارٌ ولكنّ الغضا ليس دانيا
فليت الغضا..)
أكثر ما أحببتُه أنّكِ كنتِ معلّمتي في المدرسة لعامين متتالين، درستُ الأدب والشعر معكِ فأحببتُه وتعلّمتُ كيف أقاسم الشاعر إحساسه وأنا أراكِ تحلّلين الأبيات كطبيب نفسيّ. علّمتِني أن النحو كالمعادلات الرياضية، كنتُ أتسلّى بالإعراب كلعب الألغاز، حتى صرتُ أصحّح لمعلّمتي التي خلَفتْكِ.

وبالأمس القريب، صادف أن سمعتُ إلقاءً مؤثّراً لقصيدة مالك بن الرّيب، وإذ راحت الأبيات تتوالى، كانتْ صورتكِ واقفة، أنيقة، جميلة، مضيئة الوجه، واثقة، قد حضرتْ، يوم شرحتِ لنا في قاعة الدرس الأبيات ذاتها.
لا تخطئين في حركة أبدا، ولا تغضبين أبدا، نظرة واحدة من عينيكِ تكفي ليسكت الكلّ ويصغي. خطّ يدكِ الدقيق الواضح الجميل على لوح الكتابة. كلّ شيء مرّت عليه عشرون سنة وأكثر.. أذكره تماماً.

ذكرتُكِ واقفة في قاعة الدرس، تضبطين نفسكِ عن البكاء تأثّراً بالأبيات إذ تقرئينها،
حتى وصلتِ:
(وبالرمل منّا نسوة لو شَهِدْنَني :: بكَينَ وفَدَّين الطبيبَ المُداويا
فمنهنّ أمّي وابنتايَ وخالتي :: وباكيةٌ أخرى تَهيجُ البواكيا)
فالتمعتْ عيناكِ، وارتجف صوتكِ، وسألتِنا: من هي برأيكم تلك الباكية؟
وكانتْ يدي -كالعادة في درسكِ- هي الأسبق، وكنتِ -كالعادة- تؤخّرين إجابتي لتكون الأخيرة إذ تثقين بصوابها في كلّ مرة.
وأجابت الزميلات: زوجته.

لم تكن تلك قصيدة عادية، ولم يكن درس خالتي يوماً عاديّاً في حصص الأدب. كانتْ تحبّ ما تقرأ، وتحبّ ما تُلقي وتحبّ ما تعطي ومن تعطي. لكنّي لا أذكرها تأثّرتْ بقصيدة مثل هذه.

(أقيما عَلَيَّ اليَومَ أَو بَعضَ لَيلَةٍ::وَلا تُعجلاني قَد تَبَيَّنَ شانِيا
فليت الغضا..)
لم أستوعب كيف رحلتِ وأنا لم أركِ منذ سنوات طويلة؟ كيف مرّتْ كلها دون أن نلتقي؟
مرضتِ أوّلا، وكنتُ أراكِ وأكلّمكِ عبر الأثير، وتقول أمّي إنك بخير تتعافين.
ثمّ سافرتما، وأرسلتْ لي صورة جديدة. أقول لها: خالتي تبدو متعبة جدّاً وشاحبة. فتقول: لقد تعافتْ توّاً، لكنّ العلاج لم يكن سهلا، تحتاج وقتاً لتستردّ قوّتها.. لا تقلقي.
لم يكن أحد يعلم، حتى أنتِ لم تعلمي يقيناً.
ثمّ مرّ كلّ شيء سريعاً سريعاً عليّ وأنا في البُعد، حدث تلو الآخر، حتى عرفنا أنّ ما بقي مجرّد أيام.. أو ساعات.
أردتُ أن أتّصل بابنتيكِ.. فكّرت: ماذا قد يقول المرء في مثل هذا الموقف؟ لم أعرف.
أنتِ كنتِ تعرفين، وأظنّكِ قلتِه لهما.

(وَقوما إِذا ما اِستُلَّ روحي فَهَيِّئا::لِيَ السّدرَ وَالأَكفانَ عِندَ فَنائِيا
فليت الغضا..)
كيف يرثي المرء نفسه؟ كيف يقف أمام حقيقة الموت ليقول لمن يحبّ:
إنّي راحلٌ عنكم، فتجلّدوا؟
إنّي سأدفن بعيداً، فلا تجزعوا!
إنّ المرض قد فتك بجسدي، وأخذ بقوّتي، والطبّ عاجز، فتقبّلوا الخبر حين يصلكم.

ماتتْ في أرضٍ ربّما عدّتها وطناً لها، لكنّ تلك الأرض حرمتنا أن نكون قربها في مرضها كما كنّا قبل في عافيتها. منعتنا أن نسند ابنتيها، وأن نمشي في جنازتها، ونبكي معهما. أن نزور قبرها.
هكذا.. كابن الريب، رحلتْ بشجاعة رغم الألم.

(فليت الغضا لم يقطع الركب عَرضه::وليت الغضا ماشى الركاب لياليا)

الآن فقط أكمل هذا البيت الذي أحببتُه يوم تعلّمتُ القصيدة معكِ. تذكرين شرحكِ له؟
يتمنّى مالك لو أنّ قافلته لم تغادر وادي الغضا، ولم يرحل عن أهل بيته وعن موطنه.. لو أنّ الوادي مشى مع الركْب، كيف؟ أن تتباطأ القافة فتتأخّر ولا تجتاز الوادي إلا بعد ليالٍ طويلة.

فليتني وليتكِ وليتنا لم نغادر، ولم نفترق قبل أن نتودّع.. ولكنّها لا تنفع ليت.

رحمك الله، وآنس وحشتك، وأوسع لكِ في قبرك وِسع هذه الأرض، وجعله جنّة من جنان الشهداء والصالحين.. حتى نلقاكِ في جنّتِه الآخرة.

3.10.2022