خواطر الشتاء والحرب


أين غبتُ طوال الشتاء؟ يمكنني أن أجيب بأنّي كنتُ أمارس البيات الشتويّ كمعظم الكائنات الحيّة، بل وحتى كأجزاء من أجسامنا (كالشعر)، التي يتباطأ نموّها شتاء بشكل كبير مقارنة بالصيف.
الحقيقة، إنّنا من بداية شهر نوفمبر الماضي ونحن في دوّامة الأمراض. فيروسات تتنقل داخل البيت، فننعزل عن الآخرين، ثم نعود للقاء بهم فنكتشف أنهم بدؤوا دور المرض، ونأخذ العدوى منهم من جديد.
أصيب مالك بفيروس (القيء الشتوي) مرّتين في هذه الأشهر الثلاثة، بالإضافة لفيروسات أخرى تتضمّن الزكام والكتمة الصدريّة. ومشكلة هذا الفيروس أنّه ينتقل في الجوّ بمجرّد خروج القيء من الشخص المصاب به. ولا داعي لقول إنّ إصابة طفل في الثانية والنصف من العمر بهذا الفيروس، تجعل من شبه المستحيل معرفة الوقت الذي سيقيء فيه. عدا عن محاولات إقناعه الفاشلة أن يقيء في طاسة، لا على نفسه وعلينا وعلى الأرض والسجاد والأريكة والأسرّة والفراش واللحف والوسادات، وفي طوابق البيت المختلفة.
هكذا قضيتُ بضعة أسابيع بين غسيل وتعقيم وتهوية مستمّرة بالإضافة لمحاولاتي ألا أصاب بالفيروس، وطبعا أصبنا جميعا، وتعافينا والحمد لله حمدا كثيرا على نعمة العافية، ونعمة القوّة التي يمدّنا بها الله سبحانه لنقوم بعد وقت قليل من مرض يستهلك قوانا، فنجد أنّنا بخير، ونتابع الحياة.
ثم كانت إجازة الشتاء التي أبغضها أكثر من أيّة إجازة أخرى، ولا أرى فيها من إيجابية سوى بقاء الأطفال في البيت، لأنّي أتعامل مع المدارس كتعامل الجيش الوطنيّ مع ثكنة العدوّ.
ثمّ نأتي لفقرة (العيال كبرت)، التي تشمل: احكي، واشرحي و أوضحي. ساعة، ساعتان متواصلتان ربّما. تدريس؟ نعم، لكن لا علاقة له بالمدارس. تدريس الحياة إن صحّ التعبير، الذكاء العاطفي والاجتماعيّ.
بعد هذا كلّه تأتي فقرة الإصابات الرياضيّة، التي تتكرّر معي ومع زوجي كلّ شتاء تقريبا من فترة لا بأس بها، وتجعلنا نضحك ونحن نقول: ختيرنا فعلا.

وبعد كلّ هذا، أجدني أفتح عينيّ على صوت المنبّه الذي ضبطته على الخامسة صباحاً، وأنا أفكّر وأشاور عقلي: هل أنهض؟ لا أنهض؟. لم تكن الفكرة أن (أشبع من النوم)، لأنّي أعرف أنّه لا يوجد في الحياة شيء كهذا. جدّتي رحمها الله كانت تقول: النوم يجرّ النوم، والسهر يجرّ السهر. وهكذا تعاملت مع أبنائي، لذلك حين يكونون صغارا وينامون قيلولة طويلة، لا أوقظهم إلا نادراً، لأنّي أعرف أنهم سيعودون للنوم ليلا ولو تأخّروا قليلا. وهكذا أتعامل مع نفسي، لذلك لا آخذ برأي الأطبّاء والمختصّين حول أي شيء له علاقة بروتين النوم، فروتيني هو اللاروتين.
الفكرة كانت: هل أنا حقا مرهقة لدرجة أني أريد فقط أن أبقى في السرير، أم إني أفكر في الغسيل البائت في الغسالة من ليلة أمس، وفي الحاسوب الذي لم أفتحه من أسبوعين، وفي كل شيء متراكم؟ هل أنا عاجزة حقا ومتعبة، أم أنا محبطة لأني أذكر أني في مثل هذا الوقت من العام الماضي كنت أصحو يوميا لمدة شهر كامل، في تمام الخامسة، وأجلس لأعمل على كتابي الإلكتروني، الذي لم أصل بعدُ لأفضل طريقة لنشره؟!
هل أنا لا أريد النهوض لأن جسمي يحتاج الراحة بعد، أم أني متكاسلة عن ارتداء مشدّ القدم ومشدّ الركبة، وعمل التمارين اللازمة لاستعادة المرونة؟

هكذا، بعد سبع دقائق بالضبط، نهضتُ، وتناولتُ الهاتف والكندل (القارئ الإلكتروني) من جانب السرير، ومشد القدم وجوربي البيتيّ، ونزلتُ لأجلس على الكنبة، وأنظر في حوض السمك المعتم.. معتم؟ أكتشف أنّ الضوء الذي كان يحترق على مهل من سنتين، لم يعد يعمل. أبتسم لأنها المرة الأولى التي أقترب فيها من الحوض ولا تسبح الأسماك باتجاهي انتظارا لطعامها. لا أعرف إن كانت العتمة تجعلها غير قادرة على التمييز، لكنّ براءة هذه المخلوقات ذكّرتني ببراءة الكائنات النائمة في البيت.

إنّ أكبر مخاوف الأهل -برأيي- هي معرفة حقيقة أنّ أبناءهم كبروا، ولم يعد باستطاعة الأهل حمايتهم من بشاعة هذا العالم. أتكلّم عن أهل طبيعيّين، لا عن أهل هم جزء من تلك البشاعة!
ونحتاج أن نستدعي شعورنا ببراءتهم وطفولتهم، بين حين وآخر. لأنهم حقا ما زالوا أطفالا في بعض جوانبهم، وهذا أمر لطيف محمود، لكن العالم لا يقبله. قلت هذا لصفية وأنا أشرح لها لماذا نقول عن بعض سلوكياتها إنها كسلوكيات الأطفال. قلت أيضا: أن تتصرفي أحيانا كالأطفال وأنتِ في هذا العمر، هو أمر صحّيّ وطبيعيّ، أتعلمين لمَ؟ لأنّ هذا يعني أنّكِ تكبرين في بيئة تحميك، ولم تتحمّلي مسؤوليات أكبر من عمرك النفسيّ. انظري للأطفال في الحرب، كيف يصير الأولاد في عمرك مسؤولين عن أنفسهم وإخوتهم وأحيانا أهلهم. هم ما زالوا أطفالا بحاجة أن يبكوا ويخبرهم أحدٌ أكبرُ أنه سيرعاهم وسيكونون بخير، لكنهم لا يستطيعون حتى البكاء، ولا الراحة، فلو فعلوا لماتوا جوعا أو بردا.. أو مات إخوتهم.

لا أعرف إلى أين كنت أريد أن أصل من هذا الكلام، فقد كتبتُ نصفه قبل يومين، وكنتُ لأحذفه كالعادة. لكنّي آثرتُ نشره المؤقّت، ربّما لأشجّع نفسي على العودة للكتابة. وربّما لأفرغ الخواطر السوداء التي تجول رأسي معظم الوقت، من انعدام الجدوى من كلّ شيء.

زوجي يلحّ عليّ أن أبحث عن حاسوب جديد، لأني بحاجة واحد. كثير من أعمالي متوقّف بسبب جهازي القديم، لكنّي لا أجد الوقت للبحث. أشعر أن الوقت يمضي بسرعة غير معقولة لا أفهمها.

أحصي في رأسي الآن كومة من الأعمال المؤجلة، المشاريع غير المكتملة، وأفكّر: لماذا يخاف الناس سنّ التقاعد؟ على الأقل هم عاشوا حتى هذا العمر ليكملوا كلّ ما بدؤوه يوما ولم يكتمل!

لا أعرف لماذا ولأيّ غرض كتبتُ هذا.. كتبتُه فحسب.