(ناموسيتك كُحلي)، هكذا يُقال هذا المثل عادة، بنبرة ساخرة لائمة، لمن تصحو متأخّرة.
وكأنّ الناموسية التي هي عبارة عن قماش أبيض شبَكيّ خفيف لردّ الناموس، قد حجبت عنها أشعة الشمس فحسبتْ أن الليل ما زال مقيما فتأخرت في الصحو. لكن لماذا على الفتاة تحديداً أن تصحو مبكّرة؟
…
شخصيّاً: أتنكّد لو صحوتُ بعد التاسعة، لا أعرف متى ولا كيف صار هذا طبعي، في بيت أهلي من المعتاد ألا نتأخر حتى الظهر في النوم حتى في الإجازات ومع السهر، أما في أيام سورية، كنت أصحو في العاشرة أو بعد، لكن حين يكون هنالك موعد، كنت أصحو مع أمي، مثل مواعيد الجوازات، أو نزلة الخالدية لتجهيز مونة الحصرم. وللأسف، كنا نصحو باكرا فنجد الدنيا نائمة! السوق نائم، والخلق نائمون، إلا محلات نادرة جدا. يضايقني هذا الأمر حتى هنا في هامبورغ، معظم مراكز التسوّق لا تفتح قبل التاسعة، وبعضها في التاسعة والنصف، والصيدليات كذلك. وطبعا، اختراع السوبرماركت الذي يفتح أربعا وعشرين ساعة غير موجود. المحالّ التي تفتح باكرا هي المخابز والمقاهي، في السادسة.
أحمد الله أن الماركت القريب ومحلّ أفغاني (حلال) يفتحان أبوابهما في السابعة.
قد يتساءل البعض بخبث: وهل تخرجين في السابعة للتسوق في عتمة وبرد الشتاء؟ بلى أفعل، وهذا أفضل وقت للتسوّق، لأنّي -أوّلا- مصابة بصداع السوق، وهي متلازمة معروفة لمن يصابون بالصداع في الأماكن المليئة بالأضواء والألوان والأصوات والروائح، التي تصيبهم بالتشتّت ويصيبهم الصداع وهم يجتهدون للتركيز في الحصول على مرادهم. البعض يعتبر هذا نوعاً من أطياف التوحّد. وثانيا، هذا الوقت يكون فيه الأولاد نائمون، وأنا أعتقد أن السوق والأولاد لا يصحّ أن يجتمعا في سياق جملة ولا واقع!
وأزيدك من الشعر بيتا، أفعلها في نهاية الأسبوع.. يوم السبت الذي يفترض أن أضحّي بالنومة فيه. يعني أنام للضحى، وليس أضحّي بالنومة فأذبحها، مع أنّ هذا ما يحدث!
…
اليوم السبت، صحوتُ بعد الثامنة بقليل، انزعجتُ كثيراً لأنّي تذكّرتُ أني نهضتُ في الخامسة لأطفئ المنبّه وأعود للنوم. منبّه الخامسة صباحاً الذي التزمتُ به هذا الأسبوع فأسعدني هذا الوقت كثيراً، ساعتان رائعتان قبل قيام الأولاد للمدرسة. لكنّ الالتزام بروتين مع وجود رضيع ومراهقة ينامان في غرفة واحدة، هو أمر أشبه بالمعجزة. تأخّر نوم الصغير فتأخّر نومي ونمتُ بنفسٍ نكِدة أصلا.
لكنّي حين صحوتُ، قرّرتُ ألا أضيع وقتي في النكد، هكذا صلّيتُ ركعتين، وراجعتُ حفظي من القرآن، وقمتُ بتمارين بسيطة، رتّبتُ الغرفة، والحمّام وجمعتُ الغسيل، وأخذ هذا منّي ساعة تقريبا، وأنا أسمع صوت ابني مع أبيه، يلعب تارة وينقّ تارة.. وأتجاهله حتى أنهيتُ كلّ ما أحتاجه ليتراجع نكدي إلى مستواه الأدنى، وأنا أرى الساعة ما زالتْ قبل العاشرة وقد أنجزتُ بعض (وقتي الخاصّ)، عندها فقط ذهبتُ إليهم.
كان من الصعب جدّاً أن أشرح لزوجي تحديداً أني لا أطيق أن أكلّم أحداً حين أصحو من النوم، لمدّة ساعة على الأكثر، أحتاج أن أرتّب أفكاري بصمت داخل جمجمتي، لكنّه الآن بعد هذه السنوات صار يفهم أنّي لست غاضبة منه حين أفعل ذلك.
…
وأنا إنسانة طبيعيّة، لستُ روبوتاً، فلا أقدر أن أبقى طيلة الشهر على نظام ثابت، لا بدّ أن نعترف أن الهرمونات والحالة الصحية ووجود شركاء في المسكن، يؤثّر علينا، وأن نتمتّع بالمرونة إلى حدّ ما بخصوص النظام الذي نختاره لأنفسنا. بالطبع أعاني أنا أيضا مثل غيري في نصف الكرة الشمالي، من التفاوت الرهيب الرهيب بين الصيف والشتاء في هذه البلاد، ولكن من رحمة الله أنه تفاوت يحدث بالتدريج على مدار العام كله، وليس دفعة واحدة. فنتأقلم ببطء مع العتمة وقصر النهار، ونذكّر أنفسنا أنها ثلاثة أشهر وستمضي.
…
أغتاظ حين أسمع طبيباً يتكلّم عن النوم باكراً، وأنّ المدّة التي يجب أن ننامها هي ثمان ساعات يوميّاً، وعن التجارب التي أجروها على عدد من الناس، ووجدوا أنهم ينامون أقلّ من المعدّل الحقيقيّ وأنهم مرهقون. أشعر أنّي أريد أن أمسك بخناقه، من ياقة معطفه الأبيض المغسول والمكويّ، وأخضّ (معلاقه) وأنا أسأله: ألم تفكّر لماذا لا تقول مثل هذا الكلام طبيبة؟. للأسف، يتصرّف بعض الرجال وكأنّ الله خلق كلّ الكائنات على شاكلتهم!
هنالك رجال لا ينامون ويصلون الليل بالنهار في أعمالهم، ورجال يسهرون مع أطفالهم الرضّع الذين تخلّت عنهم أمهاتهم.. نعم، وهؤلاء أيضاً لا يراهم ذلك الطبيب، بل يقول إنّهم (حالات فرديّة)، وهو يخاطب الوضع العامّ الطبيعيّ. ممممم.. وهذا يعني أن أكثر من نصف سكّان الكوكب هم حالات فرديّة!
لم أقتنع في حياتي كلّها بشيء اسمه: تثبيت موعد النوم. ولا أظنّ أن هذا الاختراع كان موجوداً في أي زمن سوى زماننا هذا، زمن البدع العجيبة. فمن زمن بعيد كانت هنالك حروب وكان القادة لا ينامون، وكان هنالك عمل يصل الليل بالنهار، وكان هنالك رضّع لا تنام أمّهاتهم.
كنتُ أيام المدرسة والجامعة، لا أكتب ولا أدرس إلا ليلا في العتمة، وأرى أن النهار موجود للعمل الذي يحتاج حركة. واليوم، صرتُ أكتب في أي وقتٍ كي لا تطير الأفكار، لكني في النهاية، لا بدّ أن أجلس ليلا إلى الحاسوب لأقدر أن أكتب بهدوء، وتركيز.
…
الآن دعوني أحكي لكم حقيقة مضحكة، نتجتْ عن المساواة التي طالبت بها النساء هنا.
إنّ الذي نتج عن تحقيق تلك (المساواة) أنّنا -كنساء- (أكلنا هوا):
لو كنتِ تصحين مبكّراً في ألمانيا، أهلا بكِ.. التعاسة بانتظارك! بداية من إخراج القمامة وفرزها في حاوياتها المخصّصة، لأنّ سيّارة القمامة تأتي باكرا وقد تفوتك وتبقى القمامة أسبوعا أو أكثر حتى موعد الجمع القادم، بالإضافة إلى القمامة التي نخذها نحن لنوصلها للحاويات الخاصّة. خمّنوا كم حاوية للفرز داخل البيت؟ أربع في المطبخ فقط: العضوية والعادية، البلاستيك والمعادن في حاوية، الأوراق والكرتون في حاوية. ثمّ هنالك تجميع الزجاج لأخذه إلى الحاوية أمام مركزّ التسّوق، وله حاويات بحسب ألوانه، ولا بد أن نغسل تلك المطربات أولا وننظفها، ونزيل منها المعدن أو البلاستيك الملحق بها. وأخيرا تجميع القناني البلاستيكية التي نعيدها للسوبرماركت ونأخذ مقابلها نقوداً.
بعد هذا كلّه قومي يا سيّدتي النشيطة بتحضير الأبناء للمدرسة وتوصيلهم، ثم تسوّقي أغراض بيتك في التخفيضات وقسائم الخصومات، وهذا يعني أن تدوري أكثر من محل، وتخرجي أكثر من مرة في نفس النهار من البيت. إما هذا، أو أن تصلي نهاية الشهر بلا نقود.
وقد يقول قائل: ولكن الرجل الألماني يقوم بهذه المهمات مع زوجته، وليس كالرجل العربي يرمي عليها كل شيء. وأردّ عليه: من قال لك؟. هل جلستَ مع عشرة نساء متزوّجات من رجال ألمان وقلنَ جميعا هذا الكلام؟. باختصار، لا. لا ألماني ولا عربي، الرجل هو الرجل، والمرأة هي المرأة في كلّ الثقافات. والمشكلة هنا بسبب القانون والعُرف ونظام المجتمع.
أما في ثقافتنا ومجتمعنا، فنجد بعض الأهل يقولون: اترك الشاب نائما لأنه -يا عيني- سيكبر ويفتح بيتا ويهلك في الدوام. فنجد الشاب لا كبر ولا فتح بيتا ولا تزوج كي لا يحمل مسؤولية.
بينما البنت لا تشبع نوما لا في بيت أهلها ولا بيتها، ولن أقول بيت زوجها لأن البيت جاء على شرف مجيئها، ولولا أنه تزوجها لما فكّر أن يسـتأجر بيتا ولبقي في دار أهله يخدمونه ببلاش، فالدار دارها، ومع ذلك لا ترتاح فيها.
ثم تُلام النساء لمّا يخرجن للعمل في وظائف بالكاد تغطي رواتبها المواصلات والخادمة والحضانة والأكل الجاهز.
لماذا يعملن إذا؟ غراماً بالشقاء؟! بل يردن ببساطة الحصول على مال مقابل الجهد، فكلمة (يعطيك العافية) لا يمكن رؤيتها بالعين المجردة ولا بالمجهر ولا تملأ حصّالة! ولا يمكن لها أن تحصل على هذا المال من بقائها في البيت، لأن كثيرات لا يملكن حسابات بنكيّة، ولا يسحبن من رواتب أزواجهن راتبا شهريا. وهذه مهمّتها وحقّها، هو لن يتذكر أن يفعل ذلك لها، فعليها أن تطلب.
…
أثناء جلوسنا للمائدة، تعجّبت صفية أن أبوها لم يكن يعمل من البيت في هذا اليوم، قالت له: كأنك تعمل كثيراً؟ خرجتَ من السادسة والنصف من البيت ولم ترجع إلا في السادسة مساء،
قال لها: أنا أعمل ثمانيَ ساعات، هذا الطبيعي، أتظنّينه كثيرا؟ أمّك تعمل خمسة أضعاف عملي في المدّة نفسها.
والله إنّني مندهشة مثلكِ أنتِ التي تقرئين، وقد فوجئتُ شخصيّاً بهذا التصريح، الحمد لله، جاءت لنا لا علينا.
أمّا حين أناقش النساء في الأمر، يقلن: لماذا أحصل على مصروف وأدخل في تعقيدات البنوك؟ أنا أطلب منه متى شئت ما أريد. هكذا أفضل، فهو يعرف أني طلبت النقود لسببٍ يراه بعينه. لا أريد أن يحاسبني أو يسألني أين وكيف صرفت.
ولأي شيء تطلبين النقود؟ لك أم للبيت والأولاد؟
= كيف يعني؟
يعني متى آخر مرّة اشتريت قطعة ملابس لكِ لأنها أعجبتك؟ قلم كحل؟ زجاجة عطر؟ حتى لو عندك عشرة غيرها. متى أكلتِ قطعة كعك ولم تغصّي بها لأنك تأكلين دون الأولاد؟ وتكون الإجابة أنها لم تفعل ذلك أبدا.
أين المشكلة في ذلك؟ المشكلة أنها تنفجر فجأة في وجه زوجها وأولادها، والحق يكون عليها لا معها. لأنها سكتت وراكمت ضيقها داخلها. فالمصروف حقّها الشرعيّ، وليس صدقة منه.
وإن كان يخاف الله فلن يرفض، بالعكس.. معظم الرجال يريحه هذا الأسلوب أكثر، وإن كانت تخاف الله فلن تبالغ أو تأخذ أكثر من حاجتها. ثم النساء أشطر عادة في التوفير، وأعرف من في زماننا هذا تأخذ النقود من الزوج لتخفيها في البيت، لأن الزوج (كريم زيادة وإيده فِرطة ومعازيمه كثر).
…
والخلاصة: أن تبدئي يومكِ باكراً، ليس للبيت ولا الأطفال ولا العمل ولا الدراسة. افعليه لكِ فحسب.. واحصلي على حقّكِ بهدوء دون ارتباك ولا سخط. العالم لن يعاملكِ بعدلٍ أبداً، إلا لو كانتْ معكِ قوّة الله. وهذه لن تحصلي عليها بنومة طويلة وصحوٍ متأخّر ودوّامة من الفوضى والسهر لا تنتهي.
22 جمادى الآخرة 1444
15.1.2023