المصيبة المنتعشة !

قصّة قصيرة|أيّ تشابه بينها وبين الواقع، هو من خيال القارئ.

في لقاء عائلي للأصدقاء، كانت تجلس قربي وفي حجرها طفلُها الخامس، الرضيعُ ذو العام الواحد، وترمق زوجها بين الفينة والأخرى بنظراتٍ تحمل معانٍ مختلفة في كلّ مرّة، لكنّها حتماً ليستْ نظرات ولَهٍ ولا غرام. كان بعض معاني النظرات مفضوحاً جداً، مثلا: هي تنظر إليه وتنظر إلى المرأة التي يكلّمها، المرأة الثالثة في مجلسنا، التي كان لها (مزاج) مختلف عني وعن (نهى)، لذلك كانت تتعمد أن تجلس أقرب إلى الرجال في كلّ لقاء، تشاركهم أحاديثهم. ولم أكن أنا أهتمّ للأمر بشكل خاصّ، إذ لم تكن لديّ أيّة شكوك أو مشاكل مع زوجي من ناحية: كيف ينظر وماذا يفكر ومع من يتكلم. كنتُ أتصرّف بما يريح رأسي وأنتبه لنفسي أنا كيف أنظر وماذا أفكر ومع من أتكلم، وأقول له: ما تفعله، بينك وبين الله!

لكنّ (جلال) زوج (نهى) لم يكن من هذا النوع، ولا من النوع المجامل حتى، بل من نوع آخر، ولو سألتْني (نهى) أن أصف زوجها في سطر واحد، لما تردّدتُ بأن أقول لها: إنّه فجّ وفظّ ولسانه طويل وعينه أطول!

والحمد لله أنها لم تطلب رأيي، فاحتفظتُ به لنفسي دائماً، وكنتُ (أطبطب) عليها في كلّ مرّة أجد الدمع محتبساً في عينيها، أو أراها مرهقة -حين يكون اللقاء في بيتهم- وهي تركض لتلبية طلباته والصغيران متعلّقان بثيابها يرفضان الالتجاء إليّ رغم معرفتهم التامّة بي، بينما المراهقون الثلاثة يختفون في غرفهم.

انحنيتُ عليها وأنا أضع قربها طبق الكنافة، وأناول الصغير صحناً بلاستيكيا لتضع له لقمة يلهو بها، وقلتُ: شوي شوي يا بنتي.. لو كانت ْالنظرات رشّاشاً، لصار زوجك مصفاة!
ابتسمتْ وقالتْ: يا ريت!
– وَلْ.. ما هذه التطوّرات؟ مالك بالعادة..
سألتني باندفاع: * وكيف هي عادتي؟
قلتُ وأنا أجلس جوارها وأتناول طبقي:
– أن تدافعي عنه من حيث تظنّين أنّك تدافعين عن نفسك.
نظرتْ إليّ باهتمام وقالتْ: كيف يعني؟
شعرتُ باللقمة تنحشر في حلقي، وابتلعتُها بصعوبة، فلاحظتْ هي، قلتُ وأنا أبتسم:
* اسمعي.. أنا لم أتكلّم مع واحدة إلا وبعد فترة سمعتُها تحكي أنّي أحرّضها على زوجها، وما أفعله هو أني أسمع ما يقلن، وأعيد صياغته على مسامعهنّ.. لكن سبحان الله.. الغباء يقتل فعلا، وأنا حياتي غالية عليّ، ولا أريد أن أموت بغباء النساء الشكّايات.
نظرتْ إلي في عتب وقالت: يعني طلعت معك أنا غبيّة؟
* بسلامتك حبيبتي، لكنّي اكتفيتُ من حكي النسوان.. ولا أريد أن أسمع لا تلميحا ولا تصريحا يشير إلى أني (خرابة بيوت).
* لن تسمعي، أعدك، لاني أصلا لا أتكلم معه من قبل حملي بـ (زيد)..
فتحتُ فمي في دهشة، كان (زيد) هو الرضيع في حضنها.
– يعني من سنتين تقريبا ما بتحكي معه؟
ابتسمتْ ابتسامة جانبية خبيثة لم أرها على وجهها من قبل وقالت:
* ولا كلمة الله وكيل إلا إجابة أسئلته، وبأقصر المفردات.
بقيتُ أحدّق فيها مذهولة.. فتابعتْ وهي تضحك بصمت:
* لعلّك تسألين نفسك كيف جاء هذا الصغير إذا؟ هذا إثبات رجولة حبيبتي.. أمه (أمرته) أن يخلّف، فنفّذ الأوامر. لكان شو مفكرة؟ كلّ أولادنا جاؤوا بالأوامر الرسمية.. لا بكلام ولا بغيره، ولأنّه يعشق أن يأمر فيُلبّى، قرّرتُ أنّي وأنا خرساء أنفع لي ولأبنائي. لا أتكلم إلا معهم.. بعكسه.. لا يمنحهم سوى العبوس والتوبيخ.
– آه، لاحظتُ أنّ الأبناء يتجنّبون الجلوس معنا دائماً، ظننتُ أنهم لا يحبّون هذه الرسميات خصوصا وأنه لا يوجد من هو من عمرهم..
* بل هو العلة، هم لا يطيقون التواجد معه في الغرفة خمس دقائق، وهو لا يهتمّ لذلك، كلّ ما يهمه أن يكونوا حاضرين عندما يهزّ صوته البيت. حتى وقت الغداء لا يريد أن يراهم، يفضّل أن يأكل لوحده، حتى أنا والصغار، يقول إنّ جلوسنا معه مزعج، وأكل الصغيرين (مقرف)..
– مقرف؟!
* إي.. تخيلي؟! ان شا الله ربنا بيرزقك أولاد وبتشوفي كيف الرجل ما بيتحمّل أكل الولد ووسخه. ربّما لا يقول الرجال كلمة (مقرف) مثل زوجي الذي (يدجّ) الكلام، ولكنّهم يفكّرون مثله.. صدّقيني. حتى (سعاد) -قالتْ وهي تقرّب رأسها منّي وتنظر تجاهها- قالت ذلك مرّة بعفو الخاطر، أنّ زوجها لا يمكن أن يحمل ابنه إلى المغسلة لو تلوّثت ثيابه بالطعام، ولا يمكن أن يذهب بطفله إلى الحمام حتى أو يقف معه، يقول إن هذه (شغلة) الأمهات.. قالتها مرة وما عادت جابت سيرة. خافتْ أن تتغيّر صورة (البرستيج) عن الزوج المثالي.. بيرفكتو أفندي..
ابتسمتُ وأنا أكرّر: حلوة بيرفكتو أفندي. يا ستي.. الله يهني سعاد بسعيد، وركزي على مشكلتك..
* أي واحدة منهم؟
سألتني وفمها مليء بالكنافة وطفلها يفتح فمه كلما رأى اللقمة تتجه إلى فم أمه، فضحكتُ وقلت:
– بداية من إطعام هذه السمكة لأنه حرام يفتح تمه عالفاضي.. بتعرفي، كنتُ دائما أشعر أن هدوء طفليك غير طبيعي.
ردّت بسرعة: مضبوعين.. أعرف
– نعم، حتى الكبار؟
* الكبار أكثر. (قالتها بألم)

سكتُّ، ليس لأني لا أملك إجابة، ولكنّي لا أريد أن أزيد الطين بلّة..

شرعتْ تحكي دون أن أوجّه لها سؤالا:
* اليوم قبل ما نجي لعندكم، كان جاهزا ومتعطّرا ومتأنّقا وقاعد هيك.. ما بعرف كيف أوصفلك حالته.
– منتعشٌ كمصيبة!
* نعم؟!
قلتُ بابتسامة: – منتعش كمصيبة، هذا تعبير من الدكتور أحمد خالد توفيق، عن شخص متأنق جدا.. يبدو رائعا لكنّ وقعه في نفوس الآخرين، ليس بتلك الروعة..

راحتْ تردّد الوصف في فمها وكأنّها تلوك قطعة لادن:
* منتعش كمصيبة.. ممم. فعلا.. عن جد، المصيبة حين تقع على رأس المصاب تقتله، تكون كصخرة ثقيلة، لكنها هي في حدّ ذاتها منتعشة، مزهوّة، تعتبر نفسها شيئاً رائعاً وبهيجاً. عجبني.
المهم، وهو جالسٌ ينتظرني بتأفّف، شعرتُ أنّي أكرهه بعمق، وغِلّ، كما لم أكره أحداً في حياتي. تخيّلي أن تكرهي الشخص الذي أنجبت منه أطفالكِ ويحملون نصف جيناته وجينات أهله وجينات اللي خلّفوه حتى سابع جدّ؟! أشعر أنّي أختنق!

– خدي نفَس.. طولي بالك..

أحضرتُ لها كوب ماء، كلّ هذا ولم تلتفت المجموعة الثلاثية ومعهم سعاد إلينا لحظة، كانوا يتكلّمون عن شيء في الاقتصاد، على مستوى الدوَل، ما شاء الله!

بعد أن شربتْ، تابعتْ قائلة:
* لا يمكن أن يمدّ يده للمعونة في شيء في البيت مطلقاً، في الأولاد؟ أعوذ بالله. الحمل والولادة والتربية كله علي، ولا يعجبه العجب. إذا تركنا الولد قال خذيه من وجهي، وهو جالس يشاهد التلفاز وفي يده الهاتف، ويقول إن الصغير يشتت تفكيره! وإذا أخذنا الولد، قالتْ أمه: أولادك مريضون وغير اجتماعيين لأنه زوجتك معقدة. فيصرخ بي لأنهم لا يضحكون في وجه أمه! عيلة معاقة الله وكيلك.

وهنا بدا أن طفلها قرّر أخيراً أن يغنّي موّال ما قبل النوم، أي ينوح قليلا، وكانتْ هذه حجّة رائعة لأصحبها للغرفة الداخلية، ونجلس براحتنا مع الصغيرين. وما أن نهضنا حتى تعالى صوت زوجها:
لوين؟
قالتْ دون أن تلتفت إليه وبصوتِ قويّ لم أعهده منها، وأدهشني:
* لجوّة..
تابع زوجها ولكن بصوتٍ أضعف كأنه شخص آخر:
– بعد شوي طالعين..
لكنّها لم تلتفت ولم تردّ، بل تابعتْ سيرها وكأنها تقول له: مع نفسك! أو بلغة أوضح: طز!

حين جلسنا في الغرفة وبعد أن انتهى الصغير من (غنائه) وبدأ يغفو، وكنتُ في ذلك الوقت أقرأ لـ أخيه قصّة مصوّرة جاء بها معه، ثمّ نهض ليخرج من حقيبته أشكالا من الليجو يلهو بها على السجّادة. فقلتُ لـ (نهى):
– لا تنسين شيئا أبدا، ما شاء الله عليك.. عن جد إذا الله طعمني اولاد، بدّي أجي آخد عندك كورس أمومة.

ابتسمتْ بمرارة، وشعرتُ أنّ كلماتي أوجعتْها من حيث أردتُ أن أمتدحها، فأكلمت:-
هونيها بتهوون.

وهنا انطلقتْ كلماتها التي احتفظتْ بها طويلا جدا جدا، وبصوت خافتٍ بيني وبينها راح مطر القهر يزخّ زخّاً:
* والله صارلي سبع عشرة سنة مهوّنتها، لكنّ نفسي ما عادتْ تهون عليّ. تشتكين لأهلك فلا تجدين لديهم سوى هذه الكليشّيه: ما بيضربك ولا مدمن، ليش عبتنقّي؟. أقول لهم: الأولاد ونفسيتهم، يقولون عنّي نعنوعة ومدلّعتهم! وأنّه يربّي رجالا وأنا أربّي صبياني كالبنات. لم أعد أشتكي لأهلي طبعاً، ولم أعد أزورهم، تخيّلي ماذا كانتْ ردّة فعلهم حين أتصل بهم كلّ يوم لأطمئنّ عليهم، تردّ أمّي على الهاتف وتقول: والله يا بنتي من وقت بطلتوا تجوا لعندنا وأبوك بطّل راسه يوجعه. أسألها ما معنى هذا الكلام، فتردّ: لا تصيري حسّاسة.. بس يعني اولادك ضوجة ومزعجين. شايفة؟ حتى أنـتِ أصابتك الدهشة.. هي تريد أن تقول أن صوت زوجي (جعرّاني) وبسمّع لآخر الحارة، وكلامه ثقيل على النفس وسمج، لكنها لزقت المشكلة في دقن اولادي، حتى هي لا تستجري أن تقول الحقّ، أتعرفين لماذا؟ تخشى أن أطلب الانفصال فيعلقوا بي وباولادي. لا أعرف من قال لهم أني سأرجع إليهم لو انفصلت عنه، أو أني أصلا أنتظر دعمهم لأنفصل.

هنا أفلت السؤال مني: وماذا تنتظرين إذا؟ أعني، يبدو لي أنكِ وضعتِ العلاقة في ثلاجة الموتى، ولم يبقَ سوى تقرير موعد الدفن.

سكتتْ قليلا ثمّ قالتْ: هنالك أشياء لا بدّ أن أتدبّرها، لستُ غبيّة لأدخل معركة يحتمل أن أخسر فيها أبنائي.
– هل هنالك من يعرف التفاصيل؟
* لا.
– إذاً تابعي واحتفظي بها سرّاً لا تفشيه لمخلوق ولا حتى لي، ولكن كوني على يقين أنّكِ لو احتجتِ مساعدتي بالحقّ، فلن أتأخر
* كيف يعني بالحقّ؟
– يعني يا (نهى) أنا لا أعرف من حياتكما سوى ما أراه، فلا يمكن أن أتدخّل وأنتصر لكِ (على عماها). وقد قلتِ وأنتِ الصادقة: لستِ غبيّة. وأقول أنا: ولستِ كاذبة. فلا تفعلي ما تفعله غيركِ من ادعاءات باطلة خشية أن تفقدي حضانة أبنائك. في النهاية لن يكون إلا ما هو مقدّر، فلا تخسري دنياك وآخرتك.

هزّت رأسها وهي تشير لابنها أن يجمع ألعابه، ثمّ حملتْ صغيرها وقالتْ لي همساً ونحن نتّجه للعودة للغرفة وقد نهض الرجال للانصراف: انتبهي الآن لردّة فعله ونحن ندخل.

ولم يكن هنالك وقت لأفهم منها، فنظرتُ إلى وجه زوجه إذ دلفنا، فرأيتُ نظراته يتطاير منها الشرر، ثمّ تتبدّل بشكل غريب، وتتحاشى وجهها، فنظرتُ إليها فوجدتُ وجهاً لا أعرفه لـ (نهى) الهادئة الوادعة، رأيتُ نظرة تحدٍّ، وغضب، وتهديد. وقلتُ في نفسي: سبحان الله، لعلّها إلى أن تتخذ خطوة تظنّها الصواب، يكون قد تغيّر فعلا. تغيّر لأنّها غيّرتْه من حيث لا تدري.. حين تغيّرتْ!

6.2.2022

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

:heart5: :cloud2: :happy: more »

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.