ناموسيتك كُحلي

(ناموسيتك كُحلي)، هكذا يُقال هذا المثل عادة، بنبرة ساخرة لائمة، لمن تصحو متأخّرة.
وكأنّ الناموسية التي هي عبارة عن قماش أبيض شبَكيّ خفيف لردّ الناموس، قد حجبت عنها أشعة الشمس فحسبتْ أن الليل ما زال مقيما فتأخرت في الصحو. لكن لماذا على الفتاة تحديداً أن تصحو مبكّرة؟

شخصيّاً: أتنكّد لو صحوتُ بعد التاسعة، لا أعرف متى ولا كيف صار هذا طبعي، في بيت أهلي من المعتاد ألا نتأخر حتى الظهر في النوم حتى في الإجازات ومع السهر، أما في أيام سورية، كنت أصحو في العاشرة أو بعد، لكن حين يكون هنالك موعد، كنت أصحو مع أمي، مثل مواعيد الجوازات، أو نزلة الخالدية لتجهيز مونة الحصرم. وللأسف، كنا نصحو باكرا فنجد الدنيا نائمة! السوق نائم، والخلق نائمون، إلا محلات نادرة جدا. يضايقني هذا الأمر حتى هنا في هامبورغ، معظم مراكز التسوّق لا تفتح قبل التاسعة، وبعضها في التاسعة والنصف، والصيدليات كذلك. وطبعا، اختراع السوبرماركت الذي يفتح أربعا وعشرين ساعة غير موجود. المحالّ التي تفتح باكرا هي المخابز والمقاهي، في السادسة.
أحمد الله أن الماركت القريب ومحلّ أفغاني (حلال) يفتحان أبوابهما في السابعة.
قد يتساءل البعض بخبث: وهل تخرجين في السابعة للتسوق في عتمة وبرد الشتاء؟ بلى أفعل، وهذا أفضل وقت للتسوّق، لأنّي -أوّلا- مصابة بصداع السوق، وهي متلازمة معروفة لمن يصابون بالصداع في الأماكن المليئة بالأضواء والألوان والأصوات والروائح، التي تصيبهم بالتشتّت ويصيبهم الصداع وهم يجتهدون للتركيز في الحصول على مرادهم. البعض يعتبر هذا نوعاً من أطياف التوحّد. وثانيا، هذا الوقت يكون فيه الأولاد نائمون، وأنا أعتقد أن السوق والأولاد لا يصحّ أن يجتمعا في سياق جملة ولا واقع!
وأزيدك من الشعر بيتا، أفعلها في نهاية الأسبوع.. يوم السبت الذي يفترض أن أضحّي بالنومة فيه. يعني أنام للضحى، وليس أضحّي بالنومة فأذبحها، مع أنّ هذا ما يحدث!

اليوم السبت، صحوتُ بعد الثامنة بقليل، انزعجتُ كثيراً لأنّي تذكّرتُ أني نهضتُ في الخامسة لأطفئ المنبّه وأعود للنوم. منبّه الخامسة صباحاً الذي التزمتُ به هذا الأسبوع فأسعدني هذا الوقت كثيراً، ساعتان رائعتان قبل قيام الأولاد للمدرسة. لكنّ الالتزام بروتين مع وجود رضيع ومراهقة ينامان في غرفة واحدة، هو أمر أشبه بالمعجزة. تأخّر نوم الصغير فتأخّر نومي ونمتُ بنفسٍ نكِدة أصلا.
لكنّي حين صحوتُ، قرّرتُ ألا أضيع وقتي في النكد، هكذا صلّيتُ ركعتين، وراجعتُ حفظي من القرآن، وقمتُ بتمارين بسيطة، رتّبتُ الغرفة، والحمّام وجمعتُ الغسيل، وأخذ هذا منّي ساعة تقريبا، وأنا أسمع صوت ابني مع أبيه، يلعب تارة وينقّ تارة.. وأتجاهله حتى أنهيتُ كلّ ما أحتاجه ليتراجع نكدي إلى مستواه الأدنى، وأنا أرى الساعة ما زالتْ قبل العاشرة وقد أنجزتُ بعض (وقتي الخاصّ)، عندها فقط ذهبتُ إليهم.
كان من الصعب جدّاً أن أشرح لزوجي تحديداً أني لا أطيق أن أكلّم أحداً حين أصحو من النوم، لمدّة ساعة على الأكثر، أحتاج أن أرتّب أفكاري بصمت داخل جمجمتي، لكنّه الآن بعد هذه السنوات صار يفهم أنّي لست غاضبة منه حين أفعل ذلك.

وأنا إنسانة طبيعيّة، لستُ روبوتاً، فلا أقدر أن أبقى طيلة الشهر على نظام ثابت، لا بدّ أن نعترف أن الهرمونات والحالة الصحية ووجود شركاء في المسكن، يؤثّر علينا، وأن نتمتّع بالمرونة إلى حدّ ما بخصوص النظام الذي نختاره لأنفسنا. بالطبع أعاني أنا أيضا مثل غيري في نصف الكرة الشمالي، من التفاوت الرهيب الرهيب بين الصيف والشتاء في هذه البلاد، ولكن من رحمة الله أنه تفاوت يحدث بالتدريج على مدار العام كله، وليس دفعة واحدة. فنتأقلم ببطء مع العتمة وقصر النهار، ونذكّر أنفسنا أنها ثلاثة أشهر وستمضي.

أغتاظ حين أسمع طبيباً يتكلّم عن النوم باكراً، وأنّ المدّة التي يجب أن ننامها هي ثمان ساعات يوميّاً، وعن التجارب التي أجروها على عدد من الناس، ووجدوا أنهم ينامون أقلّ من المعدّل الحقيقيّ وأنهم مرهقون. أشعر أنّي أريد أن أمسك بخناقه، من ياقة معطفه الأبيض المغسول والمكويّ، وأخضّ (معلاقه) وأنا أسأله: ألم تفكّر لماذا لا تقول مثل هذا الكلام طبيبة؟. للأسف، يتصرّف بعض الرجال وكأنّ الله خلق كلّ الكائنات على شاكلتهم!
هنالك رجال لا ينامون ويصلون الليل بالنهار في أعمالهم، ورجال يسهرون مع أطفالهم الرضّع الذين تخلّت عنهم أمهاتهم.. نعم، وهؤلاء أيضاً لا يراهم ذلك الطبيب، بل يقول إنّهم (حالات فرديّة)، وهو يخاطب الوضع العامّ الطبيعيّ. ممممم.. وهذا يعني أن أكثر من نصف سكّان الكوكب هم حالات فرديّة!

لم أقتنع في حياتي كلّها بشيء اسمه: تثبيت موعد النوم. ولا أظنّ أن هذا الاختراع كان موجوداً في أي زمن سوى زماننا هذا، زمن البدع العجيبة. فمن زمن بعيد كانت هنالك حروب وكان القادة لا ينامون، وكان هنالك عمل يصل الليل بالنهار، وكان هنالك رضّع لا تنام أمّهاتهم.

كنتُ أيام المدرسة والجامعة، لا أكتب ولا أدرس إلا ليلا في العتمة، وأرى أن النهار موجود للعمل الذي يحتاج حركة. واليوم، صرتُ أكتب في أي وقتٍ كي لا تطير الأفكار، لكني في النهاية، لا بدّ أن أجلس ليلا إلى الحاسوب لأقدر أن أكتب بهدوء، وتركيز.

الآن دعوني أحكي لكم حقيقة مضحكة، نتجتْ عن المساواة التي طالبت بها النساء هنا.
إنّ الذي نتج عن تحقيق تلك (المساواة) أنّنا -كنساء- (أكلنا هوا):
لو كنتِ تصحين مبكّراً في ألمانيا، أهلا بكِ.. التعاسة بانتظارك! بداية من إخراج القمامة وفرزها في حاوياتها المخصّصة، لأنّ سيّارة القمامة تأتي باكرا وقد تفوتك وتبقى القمامة أسبوعا أو أكثر حتى موعد الجمع القادم، بالإضافة إلى القمامة التي نخذها نحن لنوصلها للحاويات الخاصّة. خمّنوا كم حاوية للفرز داخل البيت؟ أربع في المطبخ فقط: العضوية والعادية، البلاستيك والمعادن في حاوية، الأوراق والكرتون في حاوية. ثمّ هنالك تجميع الزجاج لأخذه إلى الحاوية أمام مركزّ التسّوق، وله حاويات بحسب ألوانه، ولا بد أن نغسل تلك المطربات أولا وننظفها، ونزيل منها المعدن أو البلاستيك الملحق بها. وأخيرا تجميع القناني البلاستيكية التي نعيدها للسوبرماركت ونأخذ مقابلها نقوداً.
بعد هذا كلّه قومي يا سيّدتي النشيطة بتحضير الأبناء للمدرسة وتوصيلهم، ثم تسوّقي أغراض بيتك في التخفيضات وقسائم الخصومات، وهذا يعني أن تدوري أكثر من محل، وتخرجي أكثر من مرة في نفس النهار من البيت. إما هذا، أو أن تصلي نهاية الشهر بلا نقود.

وقد يقول قائل: ولكن الرجل الألماني يقوم بهذه المهمات مع زوجته، وليس كالرجل العربي يرمي عليها كل شيء. وأردّ عليه: من قال لك؟. هل جلستَ مع عشرة نساء متزوّجات من رجال ألمان وقلنَ جميعا هذا الكلام؟. باختصار، لا. لا ألماني ولا عربي، الرجل هو الرجل، والمرأة هي المرأة في كلّ الثقافات. والمشكلة هنا بسبب القانون والعُرف ونظام المجتمع.

أما في ثقافتنا ومجتمعنا، فنجد بعض الأهل يقولون: اترك الشاب نائما لأنه -يا عيني- سيكبر ويفتح بيتا ويهلك في الدوام. فنجد الشاب لا كبر ولا فتح بيتا ولا تزوج كي لا يحمل مسؤولية.
بينما البنت لا تشبع نوما لا في بيت أهلها ولا بيتها، ولن أقول بيت زوجها لأن البيت جاء على شرف مجيئها، ولولا أنه تزوجها لما فكّر أن يسـتأجر بيتا ولبقي في دار أهله يخدمونه ببلاش، فالدار دارها، ومع ذلك لا ترتاح فيها.

ثم تُلام النساء لمّا يخرجن للعمل في وظائف بالكاد تغطي رواتبها المواصلات والخادمة والحضانة والأكل الجاهز.
لماذا يعملن إذا؟ غراماً بالشقاء؟!
بل يردن ببساطة الحصول على مال مقابل الجهد، فكلمة (يعطيك العافية) لا يمكن رؤيتها بالعين المجردة ولا بالمجهر ولا تملأ حصّالة! ولا يمكن لها أن تحصل على هذا المال من بقائها في البيت، لأن كثيرات لا يملكن حسابات بنكيّة، ولا يسحبن من رواتب أزواجهن راتبا شهريا. وهذه مهمّتها وحقّها، هو لن يتذكر أن يفعل ذلك لها، فعليها أن تطلب.

أثناء جلوسنا للمائدة، تعجّبت صفية أن أبوها لم يكن يعمل من البيت في هذا اليوم، قالت له: كأنك تعمل كثيراً؟ خرجتَ من السادسة والنصف من البيت ولم ترجع إلا في السادسة مساء،
قال لها: أنا أعمل ثمانيَ ساعات، هذا الطبيعي، أتظنّينه كثيرا؟ أمّك تعمل خمسة أضعاف عملي في المدّة نفسها.
والله إنّني مندهشة مثلكِ أنتِ التي تقرئين، وقد فوجئتُ شخصيّاً بهذا التصريح، الحمد لله، جاءت لنا لا علينا.

أمّا حين أناقش النساء في الأمر، يقلن: لماذا أحصل على مصروف وأدخل في تعقيدات البنوك؟ أنا أطلب منه متى شئت ما أريد. هكذا أفضل، فهو يعرف أني طلبت النقود لسببٍ يراه بعينه. لا أريد أن يحاسبني أو يسألني أين وكيف صرفت.
ولأي شيء تطلبين النقود؟ لك أم للبيت والأولاد؟
= كيف يعني؟
يعني متى آخر مرّة اشتريت قطعة ملابس لكِ لأنها أعجبتك؟ قلم كحل؟ زجاجة عطر؟ حتى لو عندك عشرة غيرها. متى أكلتِ قطعة كعك ولم تغصّي بها لأنك تأكلين دون الأولاد؟ وتكون الإجابة أنها لم تفعل ذلك أبدا.
أين المشكلة في ذلك؟ المشكلة أنها تنفجر فجأة في وجه زوجها وأولادها، والحق يكون عليها لا معها. لأنها سكتت وراكمت ضيقها داخلها. فالمصروف حقّها الشرعيّ، وليس صدقة منه.
وإن كان يخاف الله فلن يرفض، بالعكس.. معظم الرجال يريحه هذا الأسلوب أكثر، وإن كانت تخاف الله فلن تبالغ أو تأخذ أكثر من حاجتها. ثم النساء أشطر عادة في التوفير، وأعرف من في زماننا هذا تأخذ النقود من الزوج لتخفيها في البيت، لأن الزوج (كريم زيادة وإيده فِرطة ومعازيمه كثر).

والخلاصة: أن تبدئي يومكِ باكراً، ليس للبيت ولا الأطفال ولا العمل ولا الدراسة. افعليه لكِ فحسب.. واحصلي على حقّكِ بهدوء دون ارتباك ولا سخط. العالم لن يعاملكِ بعدلٍ أبداً، إلا لو كانتْ معكِ قوّة الله. وهذه لن تحصلي عليها بنومة طويلة وصحوٍ متأخّر ودوّامة من الفوضى والسهر لا تنتهي.

22 جمادى الآخرة 1444
15.1.2023


إجهاض

(أي تشابه بين أحداث أو شخصيات القصة والواقع، هو تشابه مقصود).

بَعد:
تلك الأضواء التي تمرق سريعًا في سقف الممرّ، السرير المتحرّك البارد جدًّا، قدماها مثلجتان.. كم تكره هذه البرودة التي تتطلّبها العمليّات الجراحيّة. تشعر دومًا أنّها دورة تأهيليّة لدخول ثلاجة الموتى.
توقَّف الممرّضان أخيرًا عند باب غرفة العمليّات. ناولا الملفّ لطاقم التخدير الواقف بانتظارها؛ انحنتْ عليها طبيبة التخدير وضاقتْ عيناها بطريقة خمّنتْ منها أنّها تبتسم من خلف الكمّامة الطبّيّة، وقالتْ لها بلطف:

هل أنتِ قلقة؟
هزّت رأسها بهدوء أن (لا).
جيّد.. وربتتْ على كتفها المغطّى بالشرشف الطبّيّ بيدٍ مثلجة. كلّ شيءٍ باردٌ هنا.. حتى التعاطف.


دفعتْ ممرضتان سريرها إلى غرفة العمليّات. أصابتها دهشة.. لم تتوقّع أن تكون كبيرة هكذا.. وفكّرتْ في نفسها ساخرة: هل يرقصون (الدبكة) هنا عندما ينتهون من عمليّة ناجحة؟ وأعجبتْها نكتتها فابتسمتْ ابتسامة عريضة لنفسها.. ما جعل طبيبة التخدير تبادلها الابتسام بطريقة تضييق العينين وهي تتناول ذراعها لتصله بالأجهزة. أخيرًا.. جاء الطبيب، وحين رأتْه، تذكرتْ لقاءها الأوّل به قبل أعوام: كانت مضطربة جدا في حملها الأوّل، وكان هو رئيس قسم الولادة، وتمّ استدعاؤه من قبَل الطبيبة المشرفة. دلف الغرفة ورأى شابة حاملا في الشهر الثامن، وضع عاديّ أن تحضر لأخذ موعد قبيل الولادة، وتشعر بالألفة في المشفى. لكنها كانت متشنّجة ومرعوبة بشكل لم يسبق أن رآه. عرف أن ذاكرتها عن الحرب لم تمنحها شعورا أفضل من هذا.
لم يكن كبيرا في العمر، متوسّطا في الأربعين، أبيض البشرة، أسود الشعر جدا، أزرق العينين جدا، عدا ذلك، عاديا جدا، وكان النقيض من كل شيء حولها: لم يكن باردا، أبدا!


ابتسم لها بودّ من لحظة دخوله، ومد يده مصافحا معرّفا باسمه الأول على غير عادة أهل البلد: أنا ميشائيل .. نادني ميشائيل فقط.. ليس عليك مصافحتي إن كنت لا تصافحين.
أومأت برأسها: داليا.. شكرا لتفهمك. مشيرة إلى ملاحظته عن المصافحة.
ابتسم بدفء أكثر: أين زوجك؟
إنه يعمل.. لا يمكنه أن يحضر معي.
في الحقيقة، أجد أنك شجاعة كثيرا لحضورك وحدك، أنت لا تحتاجينه من ناحية اللغة.. ربما أنت تتكلمين الألمانية أفضل منه..
ابتسمتْ: هذا صحيح..
ضحك: النساء حين يتعلمن يغلبننا بالذكاء، وأنت اليوم غلبتِ بالذكاء والشجاعة.


تذكّرتْ كلّ هذا حين اقترب منها بالكمّامة الطبيّة؛ وانحنى مسندًا ثقله على يده الممسكة طرف السرير فوق رأسها تمامًا، وسألها:
كيف حالك؟ ابتسمتْ ولم تردّ. فابتسمتْ عيناه دون أن تضيقا.
*مستعدّة؟.
نعم ولكن..
وأومأتْ له أن يقترب، فاقترب قدر ما يستطيع.
نسيتُ أن أقول لك، إذا حدث شيء.. أيّ شيء.. لديّ بطاقة موقّعة منّي بالتبرّع بأعضائي الصالحة كاملة.. هل تفهمني؟
نظر ثوانٍ في عينيها تمامًا، واقترب أكثر حتى لم تعد المسافة الفاصلة بين عينيهما شيئًا:
لن يحدث شيء.. اتفقنا؟
أومأتْ برأسها.
تمام؟
ابتسمتْ وردّت: تمام.


ابتعد أخيرًا وأشار لطبيبة التخدير أن تبدأ عملها. فوضعتْ القناع الأسود الغليظ على وجهها.. شعرتْ بالاختناق، وتوتّرتْ. راحتْ الطبيبة تعدّ بصوت روتيني.. كان يفترض أن تغيب عن الوعي عند رقم سبعة أو ثمانية على الأكثر، لكنها بقيتْ متيقّظة!
اقترب الطبيب مرّة أخرى، وانحنى هذه المرّة دون أن يلمس شيئًا فقد كان جاهزًا ومرتديًا قفّازاته.
ما الحكاية؟ هل شربتِ قهوةً ليلة أمس؟
ابتسمتْ ساخرة: أنا لا أشرب المنبّهات أبدًا.
إذًا.. استرخي..
وتراجع مرّة أخرى. فتنهّدتْ.. وأغمضتْ عينيها. عاد القناع إلى وجهها وذهنها ما زال يعمل: لا أستطيع أن أسترخي، لأنّي لا أريد أن أنام.. أخاف أن تتحامقوا! الحقيقة أنا لا أثق بمن معك، أثق بك، ولكنّ الطبيب لا يفعل كلّ شيء من الألف إلى الياء! ماذا لو نسيتم قطعة قطن مثلا؟ هذه الأشياء تحدث. ماذا لو كنتم مهملين؟ لا أريد أنـــ…..
وذهبتْ في غيبوبة التخدير!


قَبل:
كانتْ تنظر إلى تحليل الحمل المنزليّ بيدٍ مرتجفة، وعقلها يردّد السؤال الغبيّ ذاته: كيف؟. لم يكن تساؤلا عن الديناميكة التي تمّ بها الأمر حتما، لكنه التساؤل العاطفيّ: كيف حدث ذلك في هذا التوقيت الذي يفترض ألا يحدث فيه؟ وكيف سأتصرّف الآن؟ وكيف وكيف وكيف…
أخيرًا تنهّدتْ؛ ورمتْ التحليل في القمامة وقد قرّرتْ ألا داعي لإخبار أحد!
هكذا.. مضتْ تتابع حياتها بذات السياق: ركض وراء بنتها بأعوامها الخمسة، والصبيّ المشاكس في عامه الثاني، البيت بكلّ أعماله، والوظيفة اليوميّة.
كانتْ تصحو مع أذان الفجر؛ يرنّ منبّه هاتفها المحمول فتصحو بعد ثانيتين. تشعر بالألم في فكّها فتدرك أنّها كانتْ تصرّ على أسنانها أثناء النوم. تعتدل في السرير وتضع قدميها على الأرض. كالعادة.. لا إحساس بهما.. تمشي من الغرفة للحمّام وهي لا تحسّ شيئاً وكأنّ نصفها الأسفل يتحرّك من نفسه، ثمّ يستيقظ فجأة فتصعق بألمٍ كالكهرباء يسري دفعة واحدة، ويبدأ يخف تدريجيا.
تعدّ فطورا سريعا لأطفالها، تكوي ملابس العمل لها ولزوجها خلال دقائق، لأنّه لا يعرف كيف يكوي ملابسه، ولم يتعلّم!

صباح الخير.
دون أن تنظر إليه؛ وكأنّ الأمرٌ مفروغٌ منه، تردّ: صباح النور.


تغسل أسنانها، تتوضّأ، تصلّي، تلبس.. خلال ستّة عشر دقيقة، إنّها دقيقة الحساب حين يتعلّق الأمر ببرنامج الصباح. لا يجوز أن يتأخّر أحد. يخرج زوجها. تقوم بتمارينها وهي تتذكّر وجه طبيبها: لا تتوقّفي عن الرياضة؛ لن تحتاجي إلى الأدوية طالما تمارسينها. وهي تمارس كلّ شيء أمرها به، عدا الراحة طبعا!
تحمل أغراضها وتذهب لتوقظ الأطفال. عشر دقائق للحمّام. عشر دقائق للملابس. خمس عشر دقيقة للإفطار.
إلى الباب.. انطلقوا!
تعود من العمل الجزئيّ الذي تصرّ ألا تسمح له بالتحوّل إلى دوام كامل كي لا تخسر أطفالها، ترجعهم إلى البيت. إلى الحمّام ثم المطبخ، وأخيرًا تحظى باستراحة عندما يأخذ الصغير قيلولة بينما تسمح لابنتها بمشاهدة التلفاز. وتنسلّ هي إلى غرفتها؛ لا وقت للنوم.. لا. تفتح الديوان الشعريّ الذي اشترتْه من خمسة أشهر! وعند علامة الوقف تفتح الصفحة، تتربّع على الأرض قرب النافذة.. تقرأ بشغف. قصيدة.. اثنتان.. تقفز إلى درجها وتتناول دفترها وقلمها، وتبدأ تكتب.. وتكتب.. أربعون دقيقة مضتْ وهي غارقة في قراءة وكتابة! تقفز بذعر من أمسكتْه الشرطة وهو يبيع المخدّرات، تعيد كلّ شيء إلى درجها وتتأكّد من إقفال باب غرفتها كيلا يعبث صغيراها فيها. توقظ الصغير بلطف وهي تلاعبه، تجلس مع أطفالها لتلعب معهم. نصف ساعة، يصل زوجها. تنهض مرّة أخرى للمطبخ.. تجلس معه ليتناولا وجبة الغداء المتأخّر، وهو يتكلّم كجهاز بثّ لا يحوي زرّ إيقاف، وهي تعطيه التعبيرات اللازمة: هااا حقا؟ اممم.. غريب، جميل.. كيف؟ هل نجح الأمر؟. وبمجرّد أن تنتهي وجبة الطعام تكون قد نسيتْ تمامًا كلّ ما تحدّث عنه.
تقول لنفسها: يريد الإصغاء المتعاطِف، فليكن.


يدها اليسرى ترتجف مرّة أخرى وهي تجمع الأطباق. طبيب الأعصاب الذي أطال الفحص والتنقيب زفر أخيرًا وهو يقول لها بأسفٍ شديد حتى حسِبتْه سيقدم على بتر ذراعها من قوّة زفيره: لا يوجد أيّ خلل، هذه حالة نفسيّة تمامًا ناتجة عن التوتّر والإرهاق. طالما أنّ الأمر يتحسّن عندما تحصلين على قسطٍ وافرٍ من النوم، يمكنني أن أكتب لكِ أقراصًا مهدّئة.
المخدّرات تلاحقها هنا أيضًا! هكذا ابتسمتْ لنفسها ساخرةً وهي تقارن الأشعار السياسيّة التي تهوى قراءتها بالمهدّئات.
شكرًا لك، لا أعتقد أنّي أحتاجها.
وخرجتْ وهي تكمل في نفسها: لا أستطيع أن أنام كثيرًا، ماذا لو انتهى العالم وأنا نائمة؟!. العالم فعلا قد ينتهي وأنا نائمة.. أن أصحو فأجد ذانَيك الصغيرين مستيقظان قبلي فهذه حتمًا نهاية العالم! ربّاه.. لا يمكنني حتى تخيّل الأمر.
وهكذا مضتْ الأيام بهذا الروتين حتى كان ذلك اليوم.

بعدَ ما بعد:
حين تنبّهتْ من التخدير أخيراً، كان أوّل ما رأتْه تلك الساعة الجدارية الكبيرة مقابلها، الوقت.. عدوّها ورفيقها. تمعّنتْ وهي تحاول شدّ ذاكرتها لتصحو تماماً من ضباب الغيبوبة السابقة، لتعرف كم لبثتْ في غرفة العمليات: ساعة وربعا، ولنقل إنّي هنا منذ ربع ساعة.. طبيعي.
تلفّتت حولها، كانتْ تشعر برغبة ملحّة في الذهاب للحمّام، كيف ستنهض؟! هنالك أسرّة كثيرة من كلا الجانبين وعلى الصف المقابل لها أيضا! هذه غرفة الإنعاش بعد التخدير، غرفة مؤقّتة لا ريب. رأتْ خيالا يتحرّك خلف الستار المجاور الذي يفصلها عن السرير الآخر،

إحم.. عفوا . نادت ْبصوتٍ عال بلغة البلد التي أتقنتْها بلهجتها المحلّيّة.حالاً أحضر لك..
هل سمعتْ صوت رجل؟!، تأكّد ظنّها حين أتاها ممرّض مبتسم:
صحّ النوم -قال باسماً- ، كيف أخدمك؟
آآ هل سأبقى هنا كثيرا؟
نحتاج بعض الوقت لنقلكِ إلى غرفة عادية..
حسنا، شكرا.
العفو..
وحين انصرف، عاودت استلقاءها محاولة تجاهل مثانتها الممتلئة المزعجة، عندما رأتْ الطبق الكرتونيّ الصغير وعرفتْ أنّ الممرّض كان سيساعدها ببساطة بوضع ذلك الطبق أسفل منها في الفراش لتبول فيه!
شعرتْ بالغيظ والحنق والألم، ولأوّل مرّة منذ أعوام.. بالغربة والوحدة. وابتلعتْ ريقها وغصّتها، وهي تسلّي نفسها بملاحظة كلّ ما حولها من أصوات وأشياء.
زوجها لا يعرف أصلا أنّها في المشفى، لا يعرف حكاية الحمل ولا الإجهاض. اتّصلتْ بصديقة لها أطفال في عمر أبنائها، تثق بها. صديقة أجنبيّة، وليستْ من بلدها الأصليّ، لتضمن ألا تخبر الزوج العزيز! كانتْ قد عرفتْ بالطريقة الصعبة، أنّها لا يمكن أن تثق بأيّة امرأة لأنّها فقط من دينها أو لغتها أو ثقافتها أو بلدها، فقد كانتْ تجاربها معهنّ.. مأساويّة.
أخبرتْ رفيقتها: خذي الأطفال من الروضة إليكِ، لقد أخبرتهم أنّي في هذا اليوم سأتأخّر، وقد يبيتون عندك..
ابتسمتْ بودّ: لا عليكِ، جوليا ستطير فرحا بوجود بسمة في بيتنا.. أمّا ويليام وعمر، فعليّ أن أنتبه لهما كي لا يطير البيت بما فيه!
ضحكتا.. لكنّ ضحكتها الممزوجة بمرارة جعلتْ الرفيقة تسأل:

لماذا تخافين إخباره؟ هذا حقّكِ، وهذا جسمك، ولستِ مجبرة على ذلك.. هو لا يفعل شيئا للأطفال وتقريبا لا يراهم إلا في نهاية الأسبوع كضيف شرف.

لا أستطيع أن أشرح لكِ، الأمر معقّد جدّاً. أنا لستُ خائفة منه في الحقيقة، أعرف أنّ القانون معي.. أنا خائفة من نفسي، فهذه أشياء لا رجعة فيها، وهذه مرحلة من التغيير حين يصلها الإنسان، لا يكون بمقدوره أن يعدل عنها.

جاء الممرّض أخيرا، وبدأ يجرّ السرير، كانتْ تشعر بالعريّ رغم أنها مختفية حتى ذقنها تحت اللحاف، لكنّ رأسها كان عاريا إلا من قبّعة طبّيّة شفّافة. وكان شعورها بالسخط ينمو ويتحوّل تدريجيّا إلى غلّ.
وضع السرير في غرفة مشتركة، كما هي العادة. سريران في كلّ غرفة: هل تحتاجين شيئا آخر؟
هزّت رأسها بابتسامة أن لا.
ابتسم وخرج.
التفتتْ بهدوء للسرير المجاور، أخذتْ لمحة وغضّت البصر: كانت امرأة سمراء بصحبة امرأتين تزورانها، نساء أفريقيات، رحن ينظرن لها باستغراب، تجاهلتْ النظرات، كانتْ تريد أن تذهب للحمّام!
تذكّرت كلام الممرّض، ملابسها في الخزانة وأعطاها المفتاح. لم تكن قد استحضرتْ ثيابا إضافية كما الولادة، فقد أخبروها أنها لا تحتاج مبيتاً، نهضتْ من الفراش على مهل، تشعر بأنّ وجهها يغلي من السخط، أمسكتْ بيدها ثوب المشفى المفتوح من الخلف وشدّته من منتصف ظهرها على بعضه حتى بلغتْ الخزانة، وجدتْ ملابسها هناك. من حظّها وجود ستارة تفصل مكان الملابس عن الأسرّة. أغلقتها، وانتبهتْ أنها حافية. حتى لم تحضر معها خفًّا من البيت، وشعرتْ بالقرف حين داست على الأرض. أخرجتْ بنطالها وحين حاولتْ ارتداءه، انتبهت إلى بقع الدمّ التي خلّفتها على البلاط الأبيض، لبستْه وهي ترتجف، وبدأتْ تشعر بالدوار. عثرتْ على علبة مناديل فتناولتْ منها ومسحتْ البلاط.ارتدتْ جواربها، ثمّ ملابسها العلوية، وأخيرا عثرت على ربطة شعرها، وحجابها. وفتحت الستارة أمام النظرات المندهشة، واتجهتْ إلى الحمام الموجود في نفس الغرفة.
خرجتْ أخيراً، وعادتْ إلى السرير، وراحتْ تراقب وجبة الطعام التي تُركتْ لها.

ما زالتْ النساء الثلاث في السرير المجاور يراقبنها ولا يتوقّفن عن الكلام، وبعد طول تشاور بينهنّ، سألتْها واحدة بلغة ركيكة:
أنتِ وحدكِ؟
نعم
معك صديقة؟
هزّت رأسها أن لا،
زوج؟
لا..
وحدي، وحدي، وارتعشتْ شفتها السفلى، ولمّا نهضتْ تلك المرأة إليها في فراشها واحتضنتْها..
أجهشتْ بالبكاء!

24.7.2020


المصيبة المنتعشة !

قصّة قصيرة|أيّ تشابه بينها وبين الواقع، هو من خيال القارئ.

في لقاء عائلي للأصدقاء، كانت تجلس قربي وفي حجرها طفلُها الخامس، الرضيعُ ذو العام الواحد، وترمق زوجها بين الفينة والأخرى بنظراتٍ تحمل معانٍ مختلفة في كلّ مرّة، لكنّها حتماً ليستْ نظرات ولَهٍ ولا غرام. كان بعض معاني النظرات مفضوحاً جداً، مثلا: هي تنظر إليه وتنظر إلى المرأة التي يكلّمها، المرأة الثالثة في مجلسنا، التي كان لها (مزاج) مختلف عني وعن (نهى)، لذلك كانت تتعمد أن تجلس أقرب إلى الرجال في كلّ لقاء، تشاركهم أحاديثهم. ولم أكن أنا أهتمّ للأمر بشكل خاصّ، إذ لم تكن لديّ أيّة شكوك أو مشاكل مع زوجي من ناحية: كيف ينظر وماذا يفكر ومع من يتكلم. كنتُ أتصرّف بما يريح رأسي وأنتبه لنفسي أنا كيف أنظر وماذا أفكر ومع من أتكلم، وأقول له: ما تفعله، بينك وبين الله!

لكنّ (جلال) زوج (نهى) لم يكن من هذا النوع، ولا من النوع المجامل حتى، بل من نوع آخر، ولو سألتْني (نهى) أن أصف زوجها في سطر واحد، لما تردّدتُ بأن أقول لها: إنّه فجّ وفظّ ولسانه طويل وعينه أطول!

والحمد لله أنها لم تطلب رأيي، فاحتفظتُ به لنفسي دائماً، وكنتُ (أطبطب) عليها في كلّ مرّة أجد الدمع محتبساً في عينيها، أو أراها مرهقة -حين يكون اللقاء في بيتهم- وهي تركض لتلبية طلباته والصغيران متعلّقان بثيابها يرفضان الالتجاء إليّ رغم معرفتهم التامّة بي، بينما المراهقون الثلاثة يختفون في غرفهم.

Continue reading