إجهاض

(أي تشابه بين أحداث أو شخصيات القصة والواقع، هو تشابه مقصود).

بَعد:
تلك الأضواء التي تمرق سريعًا في سقف الممرّ، السرير المتحرّك البارد جدًّا، قدماها مثلجتان.. كم تكره هذه البرودة التي تتطلّبها العمليّات الجراحيّة. تشعر دومًا أنّها دورة تأهيليّة لدخول ثلاجة الموتى.
توقَّف الممرّضان أخيرًا عند باب غرفة العمليّات. ناولا الملفّ لطاقم التخدير الواقف بانتظارها؛ انحنتْ عليها طبيبة التخدير وضاقتْ عيناها بطريقة خمّنتْ منها أنّها تبتسم من خلف الكمّامة الطبّيّة، وقالتْ لها بلطف:

هل أنتِ قلقة؟
هزّت رأسها بهدوء أن (لا).
جيّد.. وربتتْ على كتفها المغطّى بالشرشف الطبّيّ بيدٍ مثلجة. كلّ شيءٍ باردٌ هنا.. حتى التعاطف.


دفعتْ ممرضتان سريرها إلى غرفة العمليّات. أصابتها دهشة.. لم تتوقّع أن تكون كبيرة هكذا.. وفكّرتْ في نفسها ساخرة: هل يرقصون (الدبكة) هنا عندما ينتهون من عمليّة ناجحة؟ وأعجبتْها نكتتها فابتسمتْ ابتسامة عريضة لنفسها.. ما جعل طبيبة التخدير تبادلها الابتسام بطريقة تضييق العينين وهي تتناول ذراعها لتصله بالأجهزة. أخيرًا.. جاء الطبيب، وحين رأتْه، تذكرتْ لقاءها الأوّل به قبل أعوام: كانت مضطربة جدا في حملها الأوّل، وكان هو رئيس قسم الولادة، وتمّ استدعاؤه من قبَل الطبيبة المشرفة. دلف الغرفة ورأى شابة حاملا في الشهر الثامن، وضع عاديّ أن تحضر لأخذ موعد قبيل الولادة، وتشعر بالألفة في المشفى. لكنها كانت متشنّجة ومرعوبة بشكل لم يسبق أن رآه. عرف أن ذاكرتها عن الحرب لم تمنحها شعورا أفضل من هذا.
لم يكن كبيرا في العمر، متوسّطا في الأربعين، أبيض البشرة، أسود الشعر جدا، أزرق العينين جدا، عدا ذلك، عاديا جدا، وكان النقيض من كل شيء حولها: لم يكن باردا، أبدا!


ابتسم لها بودّ من لحظة دخوله، ومد يده مصافحا معرّفا باسمه الأول على غير عادة أهل البلد: أنا ميشائيل .. نادني ميشائيل فقط.. ليس عليك مصافحتي إن كنت لا تصافحين.
أومأت برأسها: داليا.. شكرا لتفهمك. مشيرة إلى ملاحظته عن المصافحة.
ابتسم بدفء أكثر: أين زوجك؟
إنه يعمل.. لا يمكنه أن يحضر معي.
في الحقيقة، أجد أنك شجاعة كثيرا لحضورك وحدك، أنت لا تحتاجينه من ناحية اللغة.. ربما أنت تتكلمين الألمانية أفضل منه..
ابتسمتْ: هذا صحيح..
ضحك: النساء حين يتعلمن يغلبننا بالذكاء، وأنت اليوم غلبتِ بالذكاء والشجاعة.


تذكّرتْ كلّ هذا حين اقترب منها بالكمّامة الطبيّة؛ وانحنى مسندًا ثقله على يده الممسكة طرف السرير فوق رأسها تمامًا، وسألها:
كيف حالك؟ ابتسمتْ ولم تردّ. فابتسمتْ عيناه دون أن تضيقا.
*مستعدّة؟.
نعم ولكن..
وأومأتْ له أن يقترب، فاقترب قدر ما يستطيع.
نسيتُ أن أقول لك، إذا حدث شيء.. أيّ شيء.. لديّ بطاقة موقّعة منّي بالتبرّع بأعضائي الصالحة كاملة.. هل تفهمني؟
نظر ثوانٍ في عينيها تمامًا، واقترب أكثر حتى لم تعد المسافة الفاصلة بين عينيهما شيئًا:
لن يحدث شيء.. اتفقنا؟
أومأتْ برأسها.
تمام؟
ابتسمتْ وردّت: تمام.


ابتعد أخيرًا وأشار لطبيبة التخدير أن تبدأ عملها. فوضعتْ القناع الأسود الغليظ على وجهها.. شعرتْ بالاختناق، وتوتّرتْ. راحتْ الطبيبة تعدّ بصوت روتيني.. كان يفترض أن تغيب عن الوعي عند رقم سبعة أو ثمانية على الأكثر، لكنها بقيتْ متيقّظة!
اقترب الطبيب مرّة أخرى، وانحنى هذه المرّة دون أن يلمس شيئًا فقد كان جاهزًا ومرتديًا قفّازاته.
ما الحكاية؟ هل شربتِ قهوةً ليلة أمس؟
ابتسمتْ ساخرة: أنا لا أشرب المنبّهات أبدًا.
إذًا.. استرخي..
وتراجع مرّة أخرى. فتنهّدتْ.. وأغمضتْ عينيها. عاد القناع إلى وجهها وذهنها ما زال يعمل: لا أستطيع أن أسترخي، لأنّي لا أريد أن أنام.. أخاف أن تتحامقوا! الحقيقة أنا لا أثق بمن معك، أثق بك، ولكنّ الطبيب لا يفعل كلّ شيء من الألف إلى الياء! ماذا لو نسيتم قطعة قطن مثلا؟ هذه الأشياء تحدث. ماذا لو كنتم مهملين؟ لا أريد أنـــ…..
وذهبتْ في غيبوبة التخدير!


قَبل:
كانتْ تنظر إلى تحليل الحمل المنزليّ بيدٍ مرتجفة، وعقلها يردّد السؤال الغبيّ ذاته: كيف؟. لم يكن تساؤلا عن الديناميكة التي تمّ بها الأمر حتما، لكنه التساؤل العاطفيّ: كيف حدث ذلك في هذا التوقيت الذي يفترض ألا يحدث فيه؟ وكيف سأتصرّف الآن؟ وكيف وكيف وكيف…
أخيرًا تنهّدتْ؛ ورمتْ التحليل في القمامة وقد قرّرتْ ألا داعي لإخبار أحد!
هكذا.. مضتْ تتابع حياتها بذات السياق: ركض وراء بنتها بأعوامها الخمسة، والصبيّ المشاكس في عامه الثاني، البيت بكلّ أعماله، والوظيفة اليوميّة.
كانتْ تصحو مع أذان الفجر؛ يرنّ منبّه هاتفها المحمول فتصحو بعد ثانيتين. تشعر بالألم في فكّها فتدرك أنّها كانتْ تصرّ على أسنانها أثناء النوم. تعتدل في السرير وتضع قدميها على الأرض. كالعادة.. لا إحساس بهما.. تمشي من الغرفة للحمّام وهي لا تحسّ شيئاً وكأنّ نصفها الأسفل يتحرّك من نفسه، ثمّ يستيقظ فجأة فتصعق بألمٍ كالكهرباء يسري دفعة واحدة، ويبدأ يخف تدريجيا.
تعدّ فطورا سريعا لأطفالها، تكوي ملابس العمل لها ولزوجها خلال دقائق، لأنّه لا يعرف كيف يكوي ملابسه، ولم يتعلّم!

صباح الخير.
دون أن تنظر إليه؛ وكأنّ الأمرٌ مفروغٌ منه، تردّ: صباح النور.


تغسل أسنانها، تتوضّأ، تصلّي، تلبس.. خلال ستّة عشر دقيقة، إنّها دقيقة الحساب حين يتعلّق الأمر ببرنامج الصباح. لا يجوز أن يتأخّر أحد. يخرج زوجها. تقوم بتمارينها وهي تتذكّر وجه طبيبها: لا تتوقّفي عن الرياضة؛ لن تحتاجي إلى الأدوية طالما تمارسينها. وهي تمارس كلّ شيء أمرها به، عدا الراحة طبعا!
تحمل أغراضها وتذهب لتوقظ الأطفال. عشر دقائق للحمّام. عشر دقائق للملابس. خمس عشر دقيقة للإفطار.
إلى الباب.. انطلقوا!
تعود من العمل الجزئيّ الذي تصرّ ألا تسمح له بالتحوّل إلى دوام كامل كي لا تخسر أطفالها، ترجعهم إلى البيت. إلى الحمّام ثم المطبخ، وأخيرًا تحظى باستراحة عندما يأخذ الصغير قيلولة بينما تسمح لابنتها بمشاهدة التلفاز. وتنسلّ هي إلى غرفتها؛ لا وقت للنوم.. لا. تفتح الديوان الشعريّ الذي اشترتْه من خمسة أشهر! وعند علامة الوقف تفتح الصفحة، تتربّع على الأرض قرب النافذة.. تقرأ بشغف. قصيدة.. اثنتان.. تقفز إلى درجها وتتناول دفترها وقلمها، وتبدأ تكتب.. وتكتب.. أربعون دقيقة مضتْ وهي غارقة في قراءة وكتابة! تقفز بذعر من أمسكتْه الشرطة وهو يبيع المخدّرات، تعيد كلّ شيء إلى درجها وتتأكّد من إقفال باب غرفتها كيلا يعبث صغيراها فيها. توقظ الصغير بلطف وهي تلاعبه، تجلس مع أطفالها لتلعب معهم. نصف ساعة، يصل زوجها. تنهض مرّة أخرى للمطبخ.. تجلس معه ليتناولا وجبة الغداء المتأخّر، وهو يتكلّم كجهاز بثّ لا يحوي زرّ إيقاف، وهي تعطيه التعبيرات اللازمة: هااا حقا؟ اممم.. غريب، جميل.. كيف؟ هل نجح الأمر؟. وبمجرّد أن تنتهي وجبة الطعام تكون قد نسيتْ تمامًا كلّ ما تحدّث عنه.
تقول لنفسها: يريد الإصغاء المتعاطِف، فليكن.


يدها اليسرى ترتجف مرّة أخرى وهي تجمع الأطباق. طبيب الأعصاب الذي أطال الفحص والتنقيب زفر أخيرًا وهو يقول لها بأسفٍ شديد حتى حسِبتْه سيقدم على بتر ذراعها من قوّة زفيره: لا يوجد أيّ خلل، هذه حالة نفسيّة تمامًا ناتجة عن التوتّر والإرهاق. طالما أنّ الأمر يتحسّن عندما تحصلين على قسطٍ وافرٍ من النوم، يمكنني أن أكتب لكِ أقراصًا مهدّئة.
المخدّرات تلاحقها هنا أيضًا! هكذا ابتسمتْ لنفسها ساخرةً وهي تقارن الأشعار السياسيّة التي تهوى قراءتها بالمهدّئات.
شكرًا لك، لا أعتقد أنّي أحتاجها.
وخرجتْ وهي تكمل في نفسها: لا أستطيع أن أنام كثيرًا، ماذا لو انتهى العالم وأنا نائمة؟!. العالم فعلا قد ينتهي وأنا نائمة.. أن أصحو فأجد ذانَيك الصغيرين مستيقظان قبلي فهذه حتمًا نهاية العالم! ربّاه.. لا يمكنني حتى تخيّل الأمر.
وهكذا مضتْ الأيام بهذا الروتين حتى كان ذلك اليوم.

بعدَ ما بعد:
حين تنبّهتْ من التخدير أخيراً، كان أوّل ما رأتْه تلك الساعة الجدارية الكبيرة مقابلها، الوقت.. عدوّها ورفيقها. تمعّنتْ وهي تحاول شدّ ذاكرتها لتصحو تماماً من ضباب الغيبوبة السابقة، لتعرف كم لبثتْ في غرفة العمليات: ساعة وربعا، ولنقل إنّي هنا منذ ربع ساعة.. طبيعي.
تلفّتت حولها، كانتْ تشعر برغبة ملحّة في الذهاب للحمّام، كيف ستنهض؟! هنالك أسرّة كثيرة من كلا الجانبين وعلى الصف المقابل لها أيضا! هذه غرفة الإنعاش بعد التخدير، غرفة مؤقّتة لا ريب. رأتْ خيالا يتحرّك خلف الستار المجاور الذي يفصلها عن السرير الآخر،

إحم.. عفوا . نادت ْبصوتٍ عال بلغة البلد التي أتقنتْها بلهجتها المحلّيّة.حالاً أحضر لك..
هل سمعتْ صوت رجل؟!، تأكّد ظنّها حين أتاها ممرّض مبتسم:
صحّ النوم -قال باسماً- ، كيف أخدمك؟
آآ هل سأبقى هنا كثيرا؟
نحتاج بعض الوقت لنقلكِ إلى غرفة عادية..
حسنا، شكرا.
العفو..
وحين انصرف، عاودت استلقاءها محاولة تجاهل مثانتها الممتلئة المزعجة، عندما رأتْ الطبق الكرتونيّ الصغير وعرفتْ أنّ الممرّض كان سيساعدها ببساطة بوضع ذلك الطبق أسفل منها في الفراش لتبول فيه!
شعرتْ بالغيظ والحنق والألم، ولأوّل مرّة منذ أعوام.. بالغربة والوحدة. وابتلعتْ ريقها وغصّتها، وهي تسلّي نفسها بملاحظة كلّ ما حولها من أصوات وأشياء.
زوجها لا يعرف أصلا أنّها في المشفى، لا يعرف حكاية الحمل ولا الإجهاض. اتّصلتْ بصديقة لها أطفال في عمر أبنائها، تثق بها. صديقة أجنبيّة، وليستْ من بلدها الأصليّ، لتضمن ألا تخبر الزوج العزيز! كانتْ قد عرفتْ بالطريقة الصعبة، أنّها لا يمكن أن تثق بأيّة امرأة لأنّها فقط من دينها أو لغتها أو ثقافتها أو بلدها، فقد كانتْ تجاربها معهنّ.. مأساويّة.
أخبرتْ رفيقتها: خذي الأطفال من الروضة إليكِ، لقد أخبرتهم أنّي في هذا اليوم سأتأخّر، وقد يبيتون عندك..
ابتسمتْ بودّ: لا عليكِ، جوليا ستطير فرحا بوجود بسمة في بيتنا.. أمّا ويليام وعمر، فعليّ أن أنتبه لهما كي لا يطير البيت بما فيه!
ضحكتا.. لكنّ ضحكتها الممزوجة بمرارة جعلتْ الرفيقة تسأل:

لماذا تخافين إخباره؟ هذا حقّكِ، وهذا جسمك، ولستِ مجبرة على ذلك.. هو لا يفعل شيئا للأطفال وتقريبا لا يراهم إلا في نهاية الأسبوع كضيف شرف.

لا أستطيع أن أشرح لكِ، الأمر معقّد جدّاً. أنا لستُ خائفة منه في الحقيقة، أعرف أنّ القانون معي.. أنا خائفة من نفسي، فهذه أشياء لا رجعة فيها، وهذه مرحلة من التغيير حين يصلها الإنسان، لا يكون بمقدوره أن يعدل عنها.

جاء الممرّض أخيرا، وبدأ يجرّ السرير، كانتْ تشعر بالعريّ رغم أنها مختفية حتى ذقنها تحت اللحاف، لكنّ رأسها كان عاريا إلا من قبّعة طبّيّة شفّافة. وكان شعورها بالسخط ينمو ويتحوّل تدريجيّا إلى غلّ.
وضع السرير في غرفة مشتركة، كما هي العادة. سريران في كلّ غرفة: هل تحتاجين شيئا آخر؟
هزّت رأسها بابتسامة أن لا.
ابتسم وخرج.
التفتتْ بهدوء للسرير المجاور، أخذتْ لمحة وغضّت البصر: كانت امرأة سمراء بصحبة امرأتين تزورانها، نساء أفريقيات، رحن ينظرن لها باستغراب، تجاهلتْ النظرات، كانتْ تريد أن تذهب للحمّام!
تذكّرت كلام الممرّض، ملابسها في الخزانة وأعطاها المفتاح. لم تكن قد استحضرتْ ثيابا إضافية كما الولادة، فقد أخبروها أنها لا تحتاج مبيتاً، نهضتْ من الفراش على مهل، تشعر بأنّ وجهها يغلي من السخط، أمسكتْ بيدها ثوب المشفى المفتوح من الخلف وشدّته من منتصف ظهرها على بعضه حتى بلغتْ الخزانة، وجدتْ ملابسها هناك. من حظّها وجود ستارة تفصل مكان الملابس عن الأسرّة. أغلقتها، وانتبهتْ أنها حافية. حتى لم تحضر معها خفًّا من البيت، وشعرتْ بالقرف حين داست على الأرض. أخرجتْ بنطالها وحين حاولتْ ارتداءه، انتبهت إلى بقع الدمّ التي خلّفتها على البلاط الأبيض، لبستْه وهي ترتجف، وبدأتْ تشعر بالدوار. عثرتْ على علبة مناديل فتناولتْ منها ومسحتْ البلاط.ارتدتْ جواربها، ثمّ ملابسها العلوية، وأخيرا عثرت على ربطة شعرها، وحجابها. وفتحت الستارة أمام النظرات المندهشة، واتجهتْ إلى الحمام الموجود في نفس الغرفة.
خرجتْ أخيراً، وعادتْ إلى السرير، وراحتْ تراقب وجبة الطعام التي تُركتْ لها.

ما زالتْ النساء الثلاث في السرير المجاور يراقبنها ولا يتوقّفن عن الكلام، وبعد طول تشاور بينهنّ، سألتْها واحدة بلغة ركيكة:
أنتِ وحدكِ؟
نعم
معك صديقة؟
هزّت رأسها أن لا،
زوج؟
لا..
وحدي، وحدي، وارتعشتْ شفتها السفلى، ولمّا نهضتْ تلك المرأة إليها في فراشها واحتضنتْها..
أجهشتْ بالبكاء!

24.7.2020


وجع قلب

أشرقتْ الشمس بعض الوقت صباح اليوم، فخرجتُ لأرتبّ الحديقة التي أنهتكتْها وكسّرتْ فيها العواصف أشياء كثيرة. ثمّ أنهيت جمع أوراق الشجر المتراكمة أمام البيت من أشهر الخريف، ومالك جالسٌ في عربته يراقبني، حتى إذا انتهيت، وجدتُه يحاول النهوض، طالباً النزهة، فرِحاً بالطقس الهادئ. فأخذتُه للملعب القريب، ولم أكن ولا هو بملابس تصلح للعب بالرمل، فقرّرتُ أنها مجرّد تمشية.

كانت العاشرة صباحاً، والملعب الذي يتوسّط تجمّع بنايات سكنية، خاليا ولا صوت من حوله، فالجميع في أعمالهم والأطفال في مدارسهم، حتى قطع السكون صوت قافلة، أو عربة من شكل غريب، تشبه الحافلة اليدوية، تجمّع فيها سبعة أطفال في عمر الحضانة (عامان وأقلّ)، تدفع العربة مربّية ألمانية شابة، ومعها أخرى أظنها من نفس العمر. عرفتُ أنّ هذه (نزهة) من روضة قريبة، وهذا أمر معتاد، كنوع من تغيير الجو للأطفال، حتى لو كان ملعب الروضة كبيراً وجميلا.
بدأتْ المربيتان عملية (تفريغ) الأطفال من العربة، واحدة تحمل الطفل وتناوله للأخرى التي تنزله على الأرض، وهما تكرّران التعليمات على الأطفال. شعرت أنهما تفرغان أشوِلَة من الرمل من عربة بناء. ولاحظتُ الطفل رقم اثنين: كان ينتحب، بطريقة مالك حين يكون نحيبه يعني شيئا واحدا (بدّي ماما)، ولا يقبل أن يسكت مع أيّ شخص آخر. وكان الطفل أصغر حجما من أقرانه، فخمنت أنه أصغر عمرا أيضا. حملتْه المربية ووضعتْه أرضا كما أقرانه فجلس في الأرض، وتابعت هي مع زميلتها إدخال بقية الأطفال. ثمّ حملت الصغير الباكي واتجهت لتجلس على المقعد المجاور مع زميلتها.

انتشر الأطفال في الملعب، وكنتُ منتبهة بكلّي إلى نظرات ابني الذي راح يتأملهم بفرح وشغف، وهو يضحك لهم. لكنّ نحيب الصغير شتّت انتباهي، فتلفّتُّ أنظر، فوجدته في الأرض عند أقدام المربية، ينظر ويكمل نحيبه. وهنا قرّرتُ أن نزهتي انتهت. نهضتُ ودفعت ابني في عربته، وعندما بدأتُ أخطو مبتعدة وصوت البكاء يتردّد في عقلي، اجتاحتني رغبة عارمة في البكاء أيضا.

أدركتُ وقتها أنّي لم أخلق للوظيفة خارج البيت، ولا وظيفة المعلمة ولا المربية، فحتى حين درّستُ المراهقين، كنتُ أشعر برغبة عارمة في ضمّهم إليّ، لما أجد من التماع عيونهم برغبة البكاء حين يتكلون عن أهلهم أحيانا، أو المعلمين أحايين أخرى. وأما الصغار، فأذكر منظر الأطفال في الحضانة حين كنتُ أوصل سمية إلى الروضة، كيف يقفون وراء الزجاج، بعضهم يبكي، وبعضهم يدقّ وبعضهم يصرخ، كأنهم في معتقل!

حمدتُ الله أني لم أضطرّ لمفارقة أبنائي في هذا العمر، وفكّرتُ: ما الذي ستخسره الحكومة الألمانية لو جعلتْ راتب الأمومة يغطّي عامين بدلا من عام واحد من عمر الطفل؟
وراتب الأمومة أو الأبوّة، هو مبلغ يتم دفعه للشخص الذي يبقى في البيت بلا عمل لرعاية الطفل الرضيع حتى يكمل عامه الأول، فيمكن عندها أن تستقبله الحضانة. ويتم تقدير المبلغ باحتساب نسبة من مرتّب الأهل الشهري، أما لو كان الراعي بلا وظيفة، فيمنح مبلغا بسيطا، يعتبر كإعانة على متطلبات الحياة. وهذا يختلف عن المرتب الذي يتم دفعه للطفل نفسه، لتغطية احتياجاته الشخصية. بالإضافة إلى ضمان بقاء مكان الأمّ أو الأبّ الوظيفيّ، بمعنى أنّه يستردّ وظيفته نفسها بعد انتهاء فترة العام.
يا ترى.. كم من الأمهات ستختار أن تبقى عاما ثانيا مع طفلها بلا عمل، لو توفّر لها مصروف يكفيها؟
ولماذا لا تضع الحكومة هذا الاختيار، بدلا من التكاليف التي تدفعها للحضانات، ورواتب المربيات، وتحمّل الإضرابات التي تصل إلى ثلاث أو اربع في العام الواحد، مطالبة بزيادة الأجور؟!

Continue reading

اللحظة السحرية

هنالك ذلك المشهد الخياليّ من فلم (Hook) أوّل فلم علق في ذهني من أيّام الطفولة من بطولة (روبن ويليامز)، عندما يجلس بيتر الجائع إلى المائدة وينظر بدهشة إلى الأطفال ويسألهم ماذا يأكلون؟! فالأطباق فارغة، يقولون له إنّهم يأكلون ما لذّ وطاب.. في الخيال. يصفون له النكهات والروائح حتى يسيل لعابه، ويتضوّر جوعاً أكثر فأكثر وهو ينظر إلى الهواء الذي يملأ كلّ طبق وكأس، ويفشل في التخيّل لأنّ مادّيّة حياة البالغين أفقدته أبسط قدرات الأطفال البريئة. رغم مرور الأعوام الكثيرة الطويلة، التي تبدو الآن عمر شخصٍ آخر، ما أزال أذكر اللحظة التي اندمج فيها بيتر في الجوّ واستعاد طفولته، لحظة واحدة كانتْ كالسحر، أظهرتْ من العدم أشهى الأطعمة أمام الأطفال الجائعين منذ دهور في (أرض المستحيل) التي غادرها بيتر الطفل ونسيها.
تلك اللحظة، كانتْ مزيجاً من الغضب، والغيظ الطفوليّ، والتحدّي، والرغبة القويّة التي لا يقف في وجهها شيء.

كانت عندي دائما تلك اللحظة السحرية، احتفظتُ بها طويلا مقاوِمة ًكلّ محاولات الأيام سحقَها وإخفاءها، حتى استهلكتُ كلّ دفاعاتي، وفقدتُها تماماً.. من عامٍ مضى. إذ مرّ حدثٌ نتجتْ عنه سلسلة من الأحداث كأحجار الدومينو، تساقطتْ كلّ أبنيتي داخلي تباعاً، ودُفنتُ داخلي تحت أنقاضها.

كانتْ لديّ تلك اللحظة السحرية، التي أقف فيها في الشارع فجأة، لأنّ رائحة مرّتْ ذكّرتني بتفاصيل مشهدٍ وزمنٍ سابق، وكنتُ أسمح لنفسي بالغرق في اللحظة.. ربّما البكاء، وكتابتِها ولو سريعاً، ثم بناء قصّة كاملة عنها. لكنّي لم أعد أفعل ذلك، أدفع نفسي وأنا أهتف بها (لا وقت)، رغم وجوده. صرتُ أتحاشاني، كما يتحاشى المدين دائنه! والمصيبة هي أنّي.. دائماً معي. فما أفعل بي؟!

في هذه الصورة، مررتُ بشارع خلف بيتي الذي أسكنه من سبع سنوات، في كلّ خريفٍ أقول لنفسي سأخرج وأقف وسطَ هذا الشارع الجانبيّ لألتقط صورة جميلة له، ولا أفعل.
في الحقيقة، فعلتُ ذلك أكثر من مرّة، لكنّ الصور -كهذه- لم تنقل ما أراه وما أحسّه، لذلك أحذفها في كلّ مرّة.
اليوم، كنتُ أمرّ صدفة بالسيّارة من هناك، فتمهلتُ وبيدٍ واحدةٍ ومن خلف زجاج النافذة الأماميّة، التقطتُ عدّة صور وأنا أقود باليد الأخرى، وهذه كانتْ أفضلها.
مجرّد شارع جانبيّ تتعانق أشجاره من الأعلى، شارع يوجد مئات غيره في هامبورغ، وكلّها لا أملّ تأمّلها والوقوف أمامها دهشة، في كلّ عام وفي كلّ خريف.
لكنّي لا أرى مجرّد شارع وأشجار، حسناً، أراه مليئا بجسور مشاة واطئة لا تسمح بعبور الشاحنات من تحتها، فقط السيارات الصغيرة والدرّاجات. عدد من الجسور الملوّنة، تتضمنّ بيوت لعبٍ صغيرة، وأراجيح قماشية معلّقة، وكراسي معدنيّة من تلك التي تبدو وكأنها خرجت من الزمن الغابر.
أراه شارعا هارباً من أرض المستحيل.. Neverland.

في طفولتي المبكرّة، في أقدم بيت تعيه ذاكرتي، كان هنالك ذلك الممرّ الطويل في قسم غرف النوم. كنتُ أركض من أوّله وأقفز في آخره، وأكرّر ذلك ثم أذهب لأنام.. فأرى في نومي أنّي بعد القفزة أطفو وكأنّي أسبح في الهواء، لا أطير. ذلك أنّي أخاف شعور الطيران، لكنّي أحبّ شعور الطفو والسباحة. كنتُ أصحو وأنا بكامل التصديق أنّ ذلك كان حقيقة.
في بيت خالتي التي كنتُ أقضي أكثر أيامي عندها مع ابنتها، كانت صورة الشلال الذي يغطّي الجدار كاملا بمثابة اللحظة السحرية. كنتُ بكامل تصديقي أنّ هنالك عالما يختفي داخل الصورة، وعليّ أن أجد طريقة لدخوله.
يمكنني حتى اللحظة بعد مضيّ أكثر من خمس وعشرين سنة، أن أشمّ رائحة النباتات في تلك الصورة، وأسمع هدير الشلال، وأحسّ رذاذ برودته على وجهي، وأرى الكهف الذي يخفيه.
لكنّي أشعر أني مثقلة بالقيود التي تمنعني من الطفو في الهواء، ومن القفز وراء الشلال. وأحاول، أحاول أن أنهض من تحت أنقاضي، وأنفض الغبار عنّي، وأعالج كسوري، وأرمّم أبنيتي.
أحاول أن أستعيد لحظتي السحرية، فأشعر أن ذهني يشبه البالون المثقوب، يصغر على مهل، حتى يصبح مهلهلا قبيحاً، لا يمكن استعادته.

يبدو أن روبن ويليامز، فقد لحظته السحرية عدّة مرّات، حتى قرّر أنه لا جدوى من المقاومة، وأنّه لن يمتلكها مجدّداً.

لم أخبر أحداً من أصدقائي أو معارفي بحادث بسيط، ذكّرني بانتحار روبن: في مدرسة بناتي الابتدائيّة، كان هنالك رجل يدعى (ماركو)، عمل لأكثر من عشرين سنة كمساعد للمعلّمين، كان ما يسمّى بالحاضن أو المربّي، وللأمانة،لم تكن بناتي وأطفال غيرهم يميلون إليه. في بداية هذا العام الدراسي، وصلتنا رسالة من إدارة المدرسة تقول إنّه قد توفّي، وقد خصّصت المدرسة في إحدى الغرف جداراً للذكرى له. قالت ابنتي لاحقا إنّ زملاء الصف سألوا المعلمة: كيف مات ماركو؟ قلتُ لسمية، قد يكون مرِضَ أو أصيب بالكورونا، فقد كانت الهجمة الثانية وقتها. لكنها فاجأتني بردّها: لا، المعلمة قالت إنه قتل نفسه! وقفتُ لحظة أحاول استيعاب ما قالتْ، وسألتها بحذر: هل تعرفين معنى ذلك؟. ردّت: نعم. قلت: هل تريدين أن تسألي شيئا عن ذلك؟ نظرت لي تفكر ثم قالت: مثل ماذا؟
الأطفال لا يدركون معنى الانتحار، أو ربّما بناتي لا يفعلن.

لم أفكر كثيرا في الأمر حينها، لكن لاحقا، وكلّما مشيتُ طريق المدرسة مع ابنتي، أفكّر أنه كان يمشي هذا الطريق عاما تلو العام، محمّلا بأفكاره ومخاوفه ومشاعره، وحيداً جدّاً رغم كثرة من يعرفهم، حتى قرّر أنّه لم يعد يقدر على حمل المزيد رغم أنه لم يجاوز الخمسينات من عمره.

لا أعرف كيف انتحر ماركو، لكنّ روبن ويليامز شنق نفسه. الأمر يتعدّى فقد القدرة على التحمّل، يحتاج شجاعة كبيرة للإقدام عليه، لاتخاذ قرار التخلّي. شجاعة كبيرة، وإحباطاً عظيماً، يتداخلان ليُنتجا سمّاً يقتل الروح، ولا تهمّ حياة الجسد بعدها.
قناعتي الشخصية، أنّ الإيمان بفكرة، هو المنجاة الوحيدة في هذه الحياة. لكن.. ماذا يحدث لو تزعزعت تلك الفكرة؟!

تقول الإحصاءات إنّ معدّل انتحار الرجال في العالم يفوق بضعف على الأقل معدّل انتحار النساء. ربّما وجود النساء على مقربة من أطفالهنّ وقتاً أطول يجعلهنّ أقوى بنقطتين: الأولى، قالتْها بعض الناجيات من الاكتئاب، وهي التفكير في أنّ أطفالها لا ذنب لهم لتتركهم وهي لا تعرف من سيعتني بهم من بعدها.
والثانية، إنّ الأطفال يحيطوننا بلحظاتهم السحريّة، ويمكنهم أن يجعلوا من اللاشيء.. كلّ شيء.

15.10.2021


كُتبت مع أغنية: Lost Boy