البديل هو الاستغناء، والتفاهة تستعبدنا

في كلّ حملة مقاطعة (دينية) تحدث في العالم الإسلامي، تصيبني الدهشة ذاتها: لماذا كان الناس أصلا يتعاملون مع هذه الأسماء والشركات التجارية؟
لماذا أقول (دينية) بين قوسين؟، لأنّ هنالك دعوات مقاطعة حدثت بضع مرات وتحدث في بعض البلاد لأسباب اقتصادية بحتة، كالغلاء. لكنّ الأسباب الدينية لم تخرج عن أحد أمرين أساسين:
الهجوم الصريح على النبي صلى الله عليه وسلم، أو تعرّض المسلمين في بلد ما للاضطهاد المباشر في حادثة أو وضع معيّن.
ما يحدث بعد كلّ مقاطعة دينية وفي معظم الحالات، هو ذاته ما يحدث بعد كلّ مقاطعة اقتصادية: بمجرّد أن يتحقّق الهدف الآنيّ الوقتيّ من المقاطعة، يعود الناس عنها ويتابعون تعاملهم وكأنّ شيئاً لم يكن. وهذا يجعل المرء يتساءل عن الفرق بين الإيمان بعقيدة راسخة، والإيمان على حَرف.
مع بداية الحرب الأخيرة على غزّة، تصدّرت علامة (ماكدونالدز) التجارية قائمة المقاطعة في أوّل أيامها، ولم تختلف ردّة فعلي المندهشة: أمعقول بعد أكثر من عشرين سنة على أوّل حملة مقاطعة، أنّ هنالك من يأكل في ماكدونالدز؟!
وهنا لا أتكلّم عن القيمة الغذائية ولا الطعم، فهذه أشياء أتركها لثقافة القارئ وذائقته الشخصية، التي يُفترض أن تكون راقية، وكمسلم، يُفترض أنه مسؤول عن صحّة وسلامة جسده بتكليف من الله له، أن ينتقي ما يضعه في هذا الجسد من ناحية، وأن يتأكّد من كونه حلالاً من ناحية أخرى. وهذه قضية طويلة معقّدة، اختزلها كثيرون في وجود ختم (حلال) على المنتجات، وكأنّ القيمة الاستهلاكية لهذا المنتج في حدّ ذاتها حلال، طالما لم تتدخّل في صنعها موادّ محرّمة.
بل الكلام عن الشعور المعنويّ الداخلي وهو يتعامل مع منتج مفروضٍ عليه بثقافة معادية لثقافته، تريد محو أيّ تمايز أو تغاير يخصّه.
إنّ وجودي في ألمانيا جعلني أبتعد عن هذا الجوّ (الأمريكيّ) بامتياز، الذي يحكم العالم العربيّ في أدقّ تفاصيله. حتى الماركات غير الأمريكية، لم تدخل البلاد إلا بعد الأمركة المسماة ظلما عولمة.
وبدأتُ أستعيد في ذاكرتي كيف اختفتْ من أسواق السعودية مثلا، المنتجات المصرية واللبنانية، وحلت مكانها الأمريكية والأوروبية عموما. حتى المنتجات الصينية الرخيصة لم تعد متاحة كما في السابق.
في ألمانيا لديهم ماركات محلية لكلّ شيء، وبحسب ما أعرف، في بلادنا العربية أيضا.
لا أقول إنّي ملتزمة بالمقاطعة تفصيليّا في كل شيء، في الحقيقة إني لم أكن أنتبه لانتماء كثير من المنتجات إلى عائلة أمريكية في النهاية. فمثلا ماركة wella السويسرية، التي عمرها أكثر من مئة عام، تم الاستيلاء عليها من بروكتر آند غامبل مع بداية الألفية الثانية ثم بيعُها، وحاليا هي ملك لشركتين أمريكيتين!
العملاق الأمريكي الجشع يلتهم كل شيء، ولا يشبع، ويفرض ذائقته وقوانينه علينا، فلماذا نرضخ؟

كنتُ أودّ ألا أطيل، لكني -كالعادة- فعلت، ولذا ستجدون تسجيلا صوتيا لهذه التدوينة*، لمن لا يريد القراءة.

الجزء الثاني من هذه التدوينة هو تلخيص للنقاط الأساسية مع تعليقاتي على الحلقة الثلاثين من بودكاست (فاهم)، عن التفاهة والحرب على غزة، مع أحمد العربي.
هنا رابط الحلقة كاملة لمن أراد أن يستمع إليها:
https://t1p.de/pslcv
1. صناعة التفاهة أمر جديد على العرب، فهم أصحاب معالٍ وشرفٍ من قبل الإسلام. وإن كانت هذه الصناعة موجّهة اليوم للعالم كلّه، فإنّ النفوس التي جُبلت على القيم، ما زلتْ قادرة على التمييز وليستْ مغيّبة تماماً.
2. التفاهة صارت داءً عامّاً، لكنّ ضرر التفاهة على المسلم دوناً عن غيره، أنّ فعل الواحد يضرّ الأمّة كاملة. وهذا ما جعلها كغثاء السيل.
3. حل التفاهة موجود في حديث النبي صلى الله عليه وسلم في ثلاث خطوات: “احْرِصْ علَى ما يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ باللَّهِ، وَلَا تَعْجِزْ”، وهو جزء من حديث أطول ورد في صحيح مسلم، مطلعه (المؤمن القوي).
فالأصل أن يتخيّر الإنسان ما ينفعه في دينه ودنياه (منفعة الدنيا تقتضي أن تكون لمنفعة الآخرة)، فإذا أصابه الملل؟ يستعين بالله، فإن واجه صعوبة وتعب؟ يكرّر ويعيد ولا ييأس، لا تعجز.
4. “نِعْمَتانِ مَغْبُونٌ فِيهِما كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ والفَراغُ.”، ولو فهم الناس المعنى الحقيقي للغبن، لما تساهلوا في أوقاتهم ولا صحّتهم. الغبن هو الشعور الناتج عن التعرّض لغشّ أو خديعة كبيرة. فكأنّ الإنسان يبيع وقته بصفقة خاسرة، يكتشف بعدها أنه خُدع ولكن بعدما انقضى عمره.
5. لماذا يصعب قرار اعتزال الإنترنت أو إغلاق الحسابات الشخصية على كثير من الناس، ولو حتى لفترة مؤقّتة؟ لأنّ هنالك شعوراً عظيماً بالأهمية الذاتية، وكلما زاد هذا الشعور، ازداد منسوب التفاهة في نفس الإنسان.
6. كنا في زمن سابق نبحث عن هوايات لأوقات الفراغ حين يتوافر لدينا، أما اليوم فنحن نتعامل مع جميع أوقاتنا كأنها أوقات فراغ! لا وقت مخصص لأيّ شيء، حتى حين يكون المرء في المدرسة أو الجامعة أو العمل، وعليه أن يُنجز، فإنه يتصرّف وكأنّه مشغول باللاشيء.
وفي هذا السياق، أحبّ أن أشير إلى أنّ الهوايات قد تكون عامل بناء دينيّ قويّ، إذا تمّ استغلالها بالشكل الصحيح. وأذكر مقولة لأحدهم: (إن كانت الصحابيات قلن لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنّ الرجال ذهبوا بأجر الجهاد، فأنا أقول في زمننا هذا: ذهبت نساؤنا بأجر الذِّكر، وأعني ربّات البيوت.)
ذلك أنّ الرجل بحكم عمله واشتغاله معظم وقته بتحصيل الرزق، والمرأة الموظّفة، تكون أوقات خلوّهم بأنفسهم قليلة، مقارنة بربّة البيت، التي يسعها أن تعمل لسانها بالأذكار والأدعية إذا لم يكن بتلاوة غيباً، وهي تؤدّي أعمالها المنزلية، هذا إن لم يكن عقلها مشغولا بسماع ما يفيدها.
7. نحن أمّة الإنجاز، وهذه التفاهة أثّرت على إنجازاتنا الدنيوية فتأخّرنا عن العالم، وأدّى هذا إلى فقداننا الصبر والجلَد على أمور الدين أيضا. إنّ آية (فإذا فرغت فانصب) تلخّص هذه النقطة: إذا فرغت من أمور الدنيا التي تقيم بها أمور آخرتك، تفرّغ للعبادة، وأخلص فيها. وهذا الاستغراق يحتاج صبراً وتدريباً.
8. من وبال (الوتج) في هذه الأيام، أنّ الإنسان يأخذ أمور دينه من مقطع فيديو مجتزأ، أو منشور، أو عبارةٍ على حالة! يأخذ دينه من التفاهة والعشوائية، فكيف يدركه ويصبر عليه؟. لقد كان الصحابة يصلّون قيام الليل مع النبي سنة كاملة عندما فُرض في سورة المزّمّل ثمّ رُفع وصار نفلا، ولكنّهم صبروا على ذلك حتى ترسّخ الدين في نفوسهم.
9. انظر إلى نفسك وفي حالك الآن، ما هي إمكانياتك ورواسخك الإيمانية لنصرة دين الله؟.
وأمّا أوّل الإعداد للنصرة، فواضح: حفظ القرآن. قراءته وتكرار القراءة والعمل على الحفظ والفهم والتطبيق.
10. كيف نشأ هذا الحاجز بيننا وبين القرآن والسنّة؟ لماذا صرنا نجد حفظ القرآن والحديث أمرا شاقا وصعبا، بل وحضور الدروس أو الدورات الدينية شيئاً جانبيّاً في ذيل الاهتمامات؟
11. قصّة غزوة مؤتة، وموقف عبد الله بن رواحة.
12. حديث السفينة الوارد في البخاري، يشير إلى كيفية تأثير معصية الفرد على الأمّة. والتوبة والاستغفار أهمّ أسباب قوّة المجتمع المسلم.
13. المقاطعة سلاح معروف من قديم وليس فيه أيّ ابتداع في الدين. وفي ذلك يرد حديث ثمامة بن أُثال، الذي أسلم فرجع إلى قومه فقال: لَا واللَّهِ، لا يَأْتِيكُمْ مِنَ اليَمَامَةِ حَبَّةُ حِنْطَةٍ حتَّى يَأْذَنَ فِيهَا النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ. فكان يتحكّم في تجارة قومه ألا تذهب أموالهم لأعداء الإسلام.
14. مقولة ابن تيمية: كم من النَّاس لم يرد خيرًا ولا شرًا حتى رأى غيره، لا سيما إن كان نظيره يفعله ففعله؛ فإن الناس كأسراب القطا مجبولون على تشبه بعضهم ببعض. وهذا شرح على أصل، والأصل هو حديث النبي عليه الصلاة والسلام عمّن سنّ سنة حسنة، وسنّة سيئة. الأمر الذي يتناساه المسلم حين يقوم بمعصية جهاراً ويقول: أحاسب عن نفسي لا عن غيري. بل هو محاسب عن نفسه وغيره إن كانوا رأوه فتشجّعوا على المعصية. وهذا ما يحدث وقت المقاطعة، فلا يستهن المرء بفعله البسيط ولا يثبّط ولا يخذّل.
15. ماذا إذا لم يوجد بديل لما أريد مقاطعته؟، وهنا يقول الضيف الفكرة التي كانتْ تدور في رأسي من بداية المقاطعة: الأصل هو الاستغناء وليس الاستبدال. نعم، نستبدل لندعم منتجاً محليّاً أو شركة ناشئة لشخص مسلم، نعم نستبدل لنقوّي المسلمين واقتصادهم، لكنه ليس الأصل. لأنّ الاستغناء يعني التحرّر من عبوديتنا لتوافه الحياة. ولأنّ الاستبدال قد ينحى بالبعض لاستبدال حرام بحرام، مع تغيير اسم الماركة فقط!
16. أخيراً، ما الفرق بين التفاهة والترفيه؟ إنّ الترفيه هو ما يسمّى في الإسلام الترويح، وهو أمر مستحبّ لتجديد طاقة الإنسان، بشرط أن ينتبه لمصدر الترفيه ونوعيّته ومدّته، فهو يقوده في النهاية للإنجاز. أما التفاهة فتضيّق خُلُقه وتقوده للعطالة والبطالة.

1.12.2023

*التسجيل الصوتي سيرفق لاحقا إن شاء الله.