قراءة وتلخيص أفكار: الجذور الاجتماعية للنكبة.

هذا التلخيص ما زال قيد التحديث.

….

الجذور الاجتماعية للنكبة
فلسطين 1858-1948
د. أكرم حجازي

هل بيعت فلسطين حقا؟ وإن كانت قد بيعت، فمن الذي قبض الثمن؟!
هذا الكتاب يشرح ذلك بطريقة طويلة، فهو عبارة عن أبحاث مزودة بأرقام وإحصائيات ووثائق، هو مستند مهم لفهم ما حلّ بأرضنا، وبنا. واستغرق مني إنهاؤه عامين، كانت القراءة على فترات متقطعة جدا.
حتى لو لم تكن فلسطينيا، فأنت متضرر بالدرجة الثانية بعد الفلسطيني المتضرر بالدرجة الأولى.
وحين تقول لمن لجأ لارضك طلبا للأمان أو الرزق، أن يعود لأرضه، عليك أن تفهم لماذا جاء أولا، ولماذا لا يقدر أن يعود.
..
من ص 13 المقدمة: في العهد العثماني، لم يطلق اسم فلسطين على أي تقسيم إداري لبلاد الشام، وكان يطلق عليها أحيانا (سوريا الجنوبية). ثم في عام 1807 قسمت فلسطين تقسيا إداريا عثمانيا إلى قسمين، أحدهما ملحق بدمشق والآخر ولاية صيدا. وبقي هذا التقسيم حتى الاحتلال البريطاني، وفي عام 1923 وضعتْ قوات هذا الاحتلال حدود فلسطين الحالية.
وهنالك رأيان في هذا التقسيم: الاول أن الحدود كانت اعتباطية نتيجة المفاوضات بين فرنسا وبريطانيا، والثاني، أنه كان مقصودا.
وأيا يكن فهذها البقعة الجغرافية كان هدفا لللغزاة على مر الزمن، ولم ينجح في حكمها سوى الأقوياء.

أما الحركة الصهيونية فجاءت لا لتحكم الأرض والشعب، بل لتستوطن وتغير هوية البلاد تغييرا جذريا.

هكذا تبدو المسألة بعيدة كل البعد عن الطابع الاستعمار/الاحتلال التقليدي الذي ينتهي برحيل المحتلّ بعد ضمانه لمصالحه الاستراتيجية في المنطقة.
ص 16: النشاطات البريطانية والصهيونية الاستعمارية في فلسطين استهدفت إحلال مجتمع مصطنع محل مجتمع طبيعي قائم منذ قرون.
وتأكد هذا المسعى في أعقاب هاتين المرحلتين:

  1. سنة 1948 تاريخ إعلان إسرائيل دولة على نحو 77بالمئة من مساحة فلسطين الواقعة تحت الاستعمار البريطاني، وبهذا التاريخ ينتهي عهد بريطانيا في فلسطين.
  2. مرحلة دخول عشرة آلاف جندي عربي مقابل ستين ألف مقاتل يهودي، وانتهت هذه المرحلة بتوقيع الدول العربية لاتفاقية الهدنة مع إسرائيل.
    وخلال هاتين المرحلتين كان المجتمع الفلسطيني يتشلاى ويتقلص بسرعة مخلفا وراءه آلاف من العائلات التي طردت من أراضيها واتجهت نحو التوطين القسري في الخيام.

“لا يعرف التاريخ حالات جرى فيها استبدال كامل للسكان الأصليين في بلد ما بأجناس من الدخلاء، وتم إنجاز عملية الاستبدال هذه في غضون مدة قصيرة لا تتجاوز جيلين من الناس. غير أن هذا الواقع هو ما جرت محاولته في فلسطين من ذ بداية القرن العشرين.”
وتم تشبيه هذا بما حدث لأحد الشعوب المنقرضة في أستراليا (التاسمانيين).

ص19: كانت الكثير من الدول تعارض الاعتراف بقيام دولة إسرائيل، ومن بينها الولايات المتحدة التي اعترفت باستحالة تطبيق القرار بالقوة، وتطور الموقف إلى صدور قرار يلغي التقسيم، ولكن الوكالة اليهودية رفضت القرار ببساطة! وانتهى الأمر باعتراف الأمم المتحدة عام 1948م بعضوية إسرائيل.

بالتأكيد كان لوعد بلفور جانبا مهما في التحولات الحاسمة التي حدثت في فلسطين، ولكنه ليس السبب الأساسي فيها. فقد حقق المستوطنون الأوائل أكثر من ثلث ما حقّقه أخلافهم زمن العهد البريطاني في مجال السيطرة على الأرض. فما بين 1932م و1936م هاجر إلى فلسطين ما يقارب 170ألف يهودي! لكنهم لم ينجحوا على صعيد العمل والهجرة لا كما ولا نوعا بسبب قوانين الدولة العثمانية التي كانت ما تزال سارية، والتي أبطأت الزحف اليهودي في حينه.

هذا الكتاب مقسّم إلى ثلاثة أجزاء يحتوي كل منها على فصلين، ويهتم الجزء الاول بقراءة المجتمع الفلسطيني في العهد العثماني في ضوء بنية المشاع وإشكالية تسجيل الاراضي، وهو الجزء الأهم برأيي لأنه يفصّل كذبة (بيع الأرض) التي صار بعض الفلسطيين أنفسهم يتبناها. والجزء الثاني يعرض استراتيجيات تفكيك بريطانيا للمجتمع الفلسطيني. ثم الجزء الأخير نتائج هذه الاستراتيجية وآثاراها على محاولات اقتلاع مجتمع من جذوره وإحلال مجتمع مغاير تماما مكانه.


قراءة في رواية: لكنّك ستفعل !

رواية: لكنّك ستفعل!، للإيطالي: جوزبّه كاتوتسيلا.
تقييمي على جوودريدز: أربعة من خمسة، سقطت نجمة بسبب الترجمة، هنالك أخطاء أسلوبية أدبية كثيرة.
أنصح كثيرا بقراءتها.


أعترف: حين بدأتُ قراءة هذه الرواية، أصابني الملل. فالراوي يستخدم أسلوب السرد على لسان البطل، والذي هو طفل في بداية المراهقة، يتيم الأمّ، له أخت صغيرة وأبوه عاطل عن العمل. تركتُ الرواية أياما كثيرة، وكنتُ حين أعود لها أنسى عن ماذا كانت تتحدّث، ثمّ لم أعد قادرة على تركها من يدي حتى الانتهاء منها.
وحين انتهتْ أصبتُ بصدمة! لكنّها كانتْ صدمة موفّقة زادت إعجابي بالرواية، وشجّعتني لقراءة روايته الثانية المترجمة للعربية. النهاية كانتْ واقعية وحقيقية جدا، وهي أفضل النهايات برأيي.

(الأسرار تُقلى، فحتى إن كنتَ لا تريد البوح بها، فإنّ الرائحة تُشمّ من بعيد.) 72
(سرقتُ كرّاساً وكتبتُ في الصفحة الأولى: تذكّر ألا تنسى.) 94
الأحداث الجادّة تبدأ عند سفر الصغيرين إلى قريتهما للبقاء فترة الإجازة الصيفية في بيت الجدّين (من جهة الأمّ)، وهناك يكتشف البطل الصغير مجموعة من المهاجرين غير الشرعيين مختبئين في برج البلدة القديم، وينتشر الخبر طبعا.

(في تلك الأيام، بالتزامن مع الحدث، تذكر كل سكان االبلدة كل ما كان يعوزهم، وما رغبوا في امتلاكه، وأصبح القليل الذي يمتلكونه مع وصول الأجانب، كنزا ثمينا.) 95
أثناء القراءة، بدأت تتداعى إلى ذهني صور هجرة الفلسطينيين قبلا، والسوريين حاليا، في بلاد العرب أو تركيا أو أوروبا. لقد وصف الكاتب ببراعة ما يفكّر به الناس، وكيف يتحوّل تركيزهم عن مشاكلهم الأصلية -بفعل الحكومات طبعا- إلى لوم المهاجرين على كلّ مصائبهم.

“نحن لا يعنينا أمر هؤلاء السبعة، لكن يجب ألا يجدوا الراحة هنا، كي لا يحرّضوا آخرين على القدوم”. 97
لقد كانتْ في أيام الإسلام الأولى هجرتان، وفارق كبير بينهما. نحن لا نعرف عن هجرة الحبشة سوى أنّ النجاشيّ (الحكومة) بعدله كان عاملا أساسيّا في الحفاظ على بذرة المسلمين هناك، وأغلب الظنّ أنّ ردّة فعل الناس كانت لتكون مماثلة لما هي عليه الآن في دول المَهجر.

(بدا للعمّال الذين فتحوا الظروف ووجدوا نصفها فارغا، بسبب الأجانب الذين يعملون بأجر أقل، أنّ العم روكّو يحمي أولئك الأجانب، ويضع تحت تصرفهم وسيلة نقل أيضا.) 119
والحقيقة أنّ هذا الثري الجشع هو سبب مصائب البلدة، لكنّ أهلها الجبناء لم يكونوا قادرين على أخذ حقهم منه، بل ويعملون عنده راضين بالقليل. والأجانب لم يكونوا راضين بالأجر، بل ويعملون في مشقّة ولا يعطيهم حتى ماء الشرب خلال العمل في الأرض وتحت الشمس، ولكن أهل البلدة لم يتكلفوا مغبّة سؤالهم.

(بعد أن تم فصله من العمل، أخذ يصرخ أمام الجميع أنه سيقتل أولئك الأجانب الثلاثة بكلتا يديه.
“لحسن الحظ أن الأجانب لم يكونوا هناك، فالعم روكو أرسلهم مباشرة إلى البيت، وإلا لكانوا قتلوهم هناك مباشرة، ولكن.. حتى لو كانوا هناك فهم لا يفهمون شيئا..”
قالت الجدة: “يفهمون يفهمون.. “
قالت كاتينا:”إذن أولئك المهاجرون بإمكانهم أن يتأكدوا بأنهم ميتون. عند هذا الحد، سيساهم جميع أهل البلدة في النيل منهم. ليس ثلاثة أو أربعة منهم فقط”.) 122

(صرختُ في وجهه:”حتى أعمامك هاجروا، أولئك الذين ذهبوا إلى أستراليا. اهتم بشؤونك الخاصة! ما علاقة الصبي جوش بذلك؟”
قال ريفه وهو يمد يديه القذرتين:”نحن نذهب إلى الأماكن التي يتوفر فيها العمل، هم يأتون إلى هنا حيث لا عمل حتى لنا.. هؤلاء الخنازير يريدون أن يسلبونا ذلك القليل الذي لدينا.. ولكن عليه أن يجرب ذلك، سأقتل ذلك المخنّث بهاتين اليدين!”) 136
في الأصل، تفكير الأطفال مختلف، لكنّهم يتأثّرون بسرعة بالكبار، خصوصا الأهل. لذلك لا يمكن أن يكون هنالك تنمّر أو عنصرية صادرة من طفل، إلا وكان أهله من النوع ذاته.

(كان ريفه يثبت جوش على الحائط، ويقول له إن الذنب ذنبه وذنب عائلته، حيث يعمل الجميع الآن ضعف الوقت، ليحصلوا على نفس الأجور السابقة، وأن كل شيء في البلدة انقلب رأسا على عقب.) 142
الملاحَظ أن جوش المهاجر كان أقوى وأطول قامة بكثير، لكنّ الضعف والانهزام من الداخل يسكنانه. لأنّه يعتبر نفسه طفيليّاً على هذا المجتمع، وأنّه يستحقّ كلّ ما يحدث له، وأنّ ما يناله مهما كان قليلا فهو أفضل من لا شيء. إنها رواية المهاجرين في كلّ زمان ومكان.

(كانت تأخذني بين ذراعيها على الأريكة. لا أطيق أبدا هؤلاء الكبار الذين يضمّونني بين أذرعهم، وبمجرد أن أكبر سأريهم من أنا.) 189
حين يبدأ الطفل دخول المراهقة، يعتبر العناق والقبلات أشياء سخيفة ومزعجة أيضا :)

(إنه لأمر سيّء أن يُصاب المرء بداء الحنين إلى الماضي، يكتوي بناره، وما من دواء.) 190
كم من أهلنا أصيبوا بهذا الداء ولم يشفوا منه، وأعاقهم عن حياة طبيعية؟

(عندما عدنا إلى المنزل وقبل أن ننام، دوّنت في دفتري الصغير شيئا مهما: أن نكون شجعانا في الحياة، أفضل من معرفة الأشياء. العالم مليء بأناس يعرفون هذا الشيء أو ذاك، لكن ليس هنالك أشخاص شجعان مثل الأجنبي الضخم، الذي من دون أن يدري، غير بلدة أريليانا”.) 219
ما فائدة معرفتك الحقّ، إن لم تمتلك الشجاعة على النطق به؟

(نحن الأولاد تبادلنا النظرات: لما يبدو الكبار الكبار أغبياء إلى هذا الحدّ؟!
كل القرية تعرف أن الأجانب في تلك الليلة كانوا في الكوخ الحجري، في الجهة الأخرى من البلدة يشوون اللحم. وإذا كان هناك من ليست له علاقة بالحريق، فسيكونون هم بالتأكيد.) 240
ورغم أن المثل الشعبي يقول: خذوا الحكمة من أفواه الأطفال، و: طِفل والله أنطقُه، لكنّ الكبار تعمى قلوبهم وبصائرهم سريعاً حين يتعلّق الأمر بالمال.

(كان ذلك ابن عمّنا رئيس البلدية، هو الذي يقف أمام العم روكّو، ويأخذ المال.
هناك أشياء يجب على المرء ألا يراها أبدا.) 259
خصوصا تلك الأشياء التي تصدم الطفل في معتقدااته الراسخة، أو الأشخاص الذين يعتبرهم درعه في الحياة. وحتى نحن الكبار، ما أكثر ما نردّد: ليتني ما رأيت كذا، ليتني ما عرفت.

(ثم التفت جدّي إلى اللوحة الصغيرة المعلقة في المطبخ، وطلب مني أن اقرأ المكتوب بصوت مسموع. لم أكن أرغب في ذلك، لكنّه أصرّ، فقرأت: المسيح لم يصل إلى هنا أبدا، ولا الزمن أيضا، ولا الأمل، ولا المنطق، ولا التاريخ.
قال جدّي: العدالة لا تنتمي إلى هذه الأرض.) 263
ذلك الاستسلام استفزّ البطل الصغير، وجعله (يقرف) من جدّيه ومن الكبار جميعا.

(صحتُ فيه: “لم يكونوا الأجانب من فعل ذلك!”
ردّ جدّي بصياح أعلى: “لا يهم من فعل ذلك! لا يهم بعد الآن! طالما يوجد أجانب في مكان ما، سيكون الذنب دائما ذنبهم!”
صرختُ مكرّرا: ليس عدلا! ليس عدلا!) 264

كانت العبارة المكتوبة خلف الصورتين معاً: (سيعلّمونك ألا تُشرِق، لكنّك ستفعل). 287
هؤلاء الكبار الذين تعبوا من مصارعة الحياة، واستسلموا، سيقولون لك إنه لا فائدة، ويصرّون على تلقينك أن تكون مثلهم ترضى بالقليل وتعيش صغير النفس، بزعمهم خوفاً عليك، إنّما الحقيقة هي خوفهم منك.
إنّ شجاعتك ستظهر جبنهم، وشمسك -حين تشرق- ستفضح ما اختبأ تحت سواد نفوسهم. وأنت.. ستتجاهل كلّ ذلك، وستشرق.

21.4.2021


لا رغبات | قراءة في رواية: لائحة رغباتي.

وعلى قائمة رغباتي، تربّعت أمنية أن أجد الوقت الكافي لكتابة هذا التقرير عن (لائحة رغباتي)!، وكما تعلمون وأعلم، المال لا يشتري الوقت، وهذا ليس أسوأ ما فيه. لكن.. لنعُد للبداية..
….
على صفحة صديقة جميلة، أجد تقريراً عن رواية بسيطة عنوانها: لائحة رغباتي. أبحث عنها بعد أسبوعين تقريبا وأبدأ بالقراءة وأتوقف، أنساها. أعود أمس بعد مضي عشرة أيام لأكملها خلال ساعتين. الرواية قصيرة وكنتُ أعرف أنّ الشخصية الأساسية امرأة، لكنّي لم أنتبه بداية أنّ الكاتب رجل! حتى إذ أنهيتُها.. أصابتني الدهشة مرّة أخرى: كيف يمكن لرجل أن يستشفّ هذا الكمّ الهائل من المشاعر التي تعتمل في نفس امرأة ويستطيع وصفها؟!

بكيتُ وأنا أقرأ بعض الصفحات في الرواية، ولكن المقاطع التي بكيتُ عندها لم تكن متعلّقة بالحدث الأساسيّ، بل بالعلاقة بالأمّ والأبّ.
مشاعر المراهِقة التي سقطتْ أمّها في الشارع ميّتة فجأة، أفزعني تخيّل المشهد. يفزعني التفكير في الموقف، أنّ أمّي لن تكون هنا للأبد، في هذه الحياة.
بكيتُ عند المقاطع التي تصف الدقائق الستّ التي يستعيد فيها أبوها وعيه وذاكرته، في كلّ مرّة كان يسألها من أنتِ؟ وكانت تعيد كلّ شيء من البداية، ويسألها عن أمّها، فتخبره أنّها ذهبتْ للسوق وستعود قريبا. وينسى أنّ زوجته ماتت وأنه أصيب بجلطة دماغية بعد وفاتها بعام، وفقد ذاكرته.

الحقيقة التي تسردها هذه الرواية، حقيقة أعرفها مذ وعيت: المال القليل مثل الكثير، الواحد مثل المليون، لا قيمة له، القيمة في الحاجة إلى الغرض الذي سيشتريه المال. ومعظم الأشياء في حياتنا لا تُشترى بل تُكتسب. الحقيقة أنّي لا أفهم لماذا يتمنّى الناس الحصول على الأموال الطائلة، ماذا سأفعل بكلّ هذا المال لو حصلتُ عليه؟ سأشتري وسأبتاع وسأمتلك.. ثمّ؟ ما هو الإنجاز في ذلك؟ لا شيء. ماذا سأفعل بقصر كبير فيه ألف غرفة؟ لا شيء. هذه قناعتي منذ زمن طويل، المال يأتي لسبب، ولا بدّ أن يذهب في هذا السبب.

قبل قراءتي الرواية شاهدتُ مقطع فيديو قصير أرسلتْه أمّي على الواتس أب، يقول تماما هذا الكلام: لماذا سأشتري هاتفا أفضل وهاتفي يؤدّي الغرض الذي أريده؟ 70% من الأشياء التي في الهاتف لا تلزمني ولا أستخدمها. وقِس على هذه السبعين بالمئة البيت الكبير، والسيارة الجديدة، والمال الكثير. وأضيف من عندي للنساء خاصة: أواني المطبخ! والأحذية!! والحقائب!!!

منذ سبعة أعوام تقريباً، اتخذتُ أسلوباً في حياتي مفاده: كلّما ابتعتُ غرضا جديدا لا بدّ من شرطين: أن يكون لحاجة، وأن أُخرج بدلا منه غرضاً قديما (أي لم أعد أستخدمه وليس مهترئا)، أو صدقة. والبعض رأى في هذا الأسلوب مبالغة، لكنّي ما زلتُ أمشي بنفس الطريقة حتى مع بناتي: لعبة جديدة مقابل لعبة تُهدى لطفل آخر، هاتف جديد لي لأنّ هاتفي تعطّل؟ سأستخدمه حتى يتعطّل. حاسوبي المحمول عمره عشرة أعوام بالتمام، من عمر صفية، كلّما قرّر مجاهد شراء واحد جديد لي، أثنيتُه عن ذلك بكلمة: لسّه شغّال وعين الله عليه. هكذا، تجد أنّ لديكَ مالا لا يلزمكَ، وحينها تفكّر في شيء إيجابيّ تفعله بهذا المال، والإيجابيّة غالبا تشمل غيرك.

لكنّ الأمور ليست كذلك عند كثيرين، فالمال كما تقول الرواية: يغيّر النفوس، ويخرج أبشع ما فيها. يبقى المتحكّم في الأمر هو الأخلاق، والأخلاق لا وجود لها بلا دين، بغضّ النظر عن كُنه هذا الدين، إلا أنّ مبدأ المثوبة والعقوبة الإلهيّة هو في الحقيقة مصدر هذه الأخلاق. لذلك حين يظهر الجشع، والطمع، والسرقة.. يبدو جليّاً غياب الإله عن النفس.

هذا ما حدث لـ (جو) زوج (جوسلين) التي ربحت بطاقة اليانصيب ذات الرصيد الذي يفوق ثمانية عشر مليون يورو! وفي حين يصف الكاتب أنّ وفاة طفلهما الثالث في بطن أمّه قبيل ولادته، كان نقطة فاصلة هدمت أشياء كثيرة في زواجهما، أجد أنّ الأمر مبالغ فيه. فلا أعتقد أبداً أنّ أبا لديه بالفعل صبي وبنت سليمين، وحملتْ زوجته حملا غير مخطط له، ثم مات هذا الطفل بعد اكتماله، سيصبح شخصا عنيفا تجاه زوجته بسبب إحباطه! من الواضح أنّه كان يريد أن يتخلّص منها، وأرادها أن تموت مع الطفل! ولو كان شخصا متديّنا بأيّ دين، لديه إله في نفسه.. لتجاوز هذه المحنة. ولن أقول لو كان يحبّ زوجته حقا، فالحبّ علاقة معقّدة، تحتمل الجرح والتطبيب، والكسر والجبر. لكنّها لا تحتمل القطع أو القتل.

أحببتُ المقطع الذي تصف فيه جوسلين زوجها في إغفاءته وهو مصاب بانفلونزا الخنازير، وتقارنه بأجمل رجل في العالم، وأكثرهم في كل شيء، وأنها لا يمكن أن تتخلى عن جو لأجله، (لأن جو يحتاجني والمرأة تحتاج أن يحتاجها أحد ما. أجمل من في العالم لا يحتاج إلى شيء ما دام لديه كلّ العالم).

وعندما ذهبتْ جوسلين لاستلام الشيك الذي يحمل جائزتها، جلستْ معها أخصائية نفسية، وراحتْ تكلّمها عن مساوئ الحصول على هذا المبلغ الكبير من المال: (المال يسبب الجنون يا سيدة غيربيت، إنه أساس أربع جرائم من كلّ خمس، وسبب حالة اكتئاب من كلّ اثنتين! هل لديكِ أطفال؟ حسنا، لن يعودوا يروك كأم فقط، وإنما كأم غنية. وزوجك، سيدلّلك كثيرا، هذا السيناريو مكتوب منذ زمن طويل، الطمع يشعل كل شيء في طريقه..)

بعد حصولها على المبلغ، تخرج متّجهة إلى أغلى متاجر المدينة، تدلفها بحقيبتها القديمة ومعطفها شبه المهترئ، وتجد ممثلة شهيرة خارجة من المتجر وهي تحمل حقائب ممتلئة، تكلّم نفسها: (أنا أيضا يمكنني إفراغ متجر شانيل، واستئجار ليموزين وسائق، لكن لماذا قد أفعل؟ ما رأيتُه من وِحدة على وجه هذه الممثلة أرعبني).

جوسلين صاحبة متجر بيع مستلزمات الخياطة، التي أنشأتْ مدوّنة الاصابع الذهبية العشر، تتجّه الآن بمالها إلى محلّ أقمشة، وتشتري أشياء لمحلّها في بلدتها الصغيرة، تقول أخيرا وهي تخرج: (تكلّف السعادة أقلّ من أربعين يورو).

وعندما رجعتْ ولم تخبر أحدا أنها ربحتْ، (دخلتْ زبونة وسألتها عن حال زوجها وهل تحسّن من المرض، كانتْ من أصدقاء المدوّنة، وفجأة بدأتْ بالبكاء وهي تخبرها أنّ ابنتها الكبيرة في المشفى مصابة بذات الداء، وعلى وشك الموت. كل هذه الملايين التي معي لم تكن لتنفعها شيئا أو تنقذ ابنتها).

هذا الجملة التي قالتْها جوسلين لنفسها، وجدتُها أكثر من مبكية: (أعلم أنّ المرء لا يدلّل أبدا والديه بما يكفي، وأنّه حين يعي ذلك.. يكون الأوان قد فات).

ترسل إليها ابنتها التي تعمل في صناعة الأفلام في لندن، فِلما قصيرا بطول دقيقة من تنفيذها: (نشاهد امرأة عجوزا على رصيف، في محطة فكتوريا، شعرها أشيب، نزلت من قطار، تمشي بضع خطوات، ثم تضع حقيبتها الصقيلة جدا، تنظر حولها، يطوّقها الحشد كما يطوّق الماء حصاة، وبعد ذلك تجد نفسها وحيدة فجأة، وفي غاية الضآلة، ومنسيّة. إنّها صورة حقيقة، هزيمة مألوفة، عن ألم الهجر والفقدان والخوف والموت).

جوسلين لديها جسم امرأة قاربت الخمسين وحملتْ ثلاث مرّات، جسم عاديّ يميل للبدانة، ومذ حصلتْ على الشيك الذي لم تصرفه، بدأتْ تفقد شهيّتها للطعام، كانتْ تفكّر كيف ستخبر الآخرين، تفكّر في كلام الأخصائية، وهكذا بدأتْ تفقد وزنها، وتقف أمام المرآة تطالع تغييرات جسدها: (لو كنتُ ثريّة لوجدتُه قبيحا، ولرغبتُ في ترميم كلّ شيء فيه، تكبير وشدّ وجراحة تجميلية و.. أن يكون المرء غنيا، يعني أن يرى كل ما هو قبيح، لأنّه يظنّ أن بقدوره تغيير الأمور. وأنه يكفيه أن يدفع المال ليقوم بذلك. لكني لستُ ثرية، أنا فقط أمتلك شيكا بقيمة 18 مليون يورو، مطويّا ومخبّأ في عقب حذاء قديم. لديّ فقط إغراء، إغراء بحياة أخرى ممكنة، منزل جديد، تلفاز جديد، أشياء جديدة.. لكن بعد ذلك، لا شيء مختلف).

أثناء وصفها للإهانات التي تلقّتها من زوجها بعد وفاة الطفلة، وكيف كان يصرخ فيها أنّ بدانتها خنقتْ ابنتها في بطنها! تقول: (كانت سنة سوداء، كنت أنهض في الليل لأبكي في غرفة ابنتي نادين، لم أكن أريده أن يسمعني وأن يرى الألم الذي يسببه لي، لم أكن أرغب بهذا الخزي. النساء وحيدات دائما في أذى الرجال). وأجد كلامها صحيحا تماما، حين يكون هذا الأذى النفسيّ من الزوج، فإنّ الزوجة تنزع إلى إخفاء هذا عنه، لا تحبّ أن يراها مكسورة، ولو كان هذا بسببه وعمل يده! ألم أقل بداية إنّ الحبّ معقّد؟

وتقول في فلسفة التملّك: (الأشياء الصغيرة التافهة التي سنشتريها في الأسبوع القادم، هي ما يدفعنا للتفكير بالمستقبل ويبعث فينا الرغبة للحياة حتى الأسبوع القادم. لذلك يتفاخر المرء بمشترياته، يبرمج الأماكن التي سيزورها، يملأ الخزائن ببطء، والأدراج، يمضي حياته يملأ المنزل، وحين يغصّ، يكسر الأشياء كي يستطيع استبدالها، كي يغدو لديه شيء ما للعمل في اليوم التالي. ويذهب حتى إلى تحطيم زواجه كي يُلقي بنفسه في قصة أخرى، ومستقبل آخر، ومنزل آخر. وحياة أخرى عليه أن يملأها). وهذا ما حدث حين سرق زوجها الشيك الذي اكتشفه صدفة وهو يصلح رفّ خزانة الأحذية، وصرفه باسمه، واختفى من حياتها!

بعد الصدمة: (كنتُ أحبّ حياتي البسيطة مع جو بعمق، وعرفتُ من الوهلة الأولى التي ربحتُ فيها هذه النقود أنها ستفسدها، وفي سبيل ماذا؟ منزل أكبر وأفخم؟ سيّارة حديثة؟ ساعة ذهبية؟ لا ، كنتُ أحظى بما لا يمكن للنقود أن تشتريه، لكنّه دُمّر تماما: السعادة! سعادتي على أية حال، هي سعادتي أنا. بأخطائها وتفاهاتها وصغائرها، لكنها سعادتي أنا. فريدة من نوعها. لذلك كنت قد اتخذت قراري بعد عودتي من باريس ببضعة أيام أنّي سأحرق الشيك. لكنّ الرجل الذي كنتُ أحبّه سرقها).

وبعد سنة صرف فيها ثلاثة ملايين، أصيب بالاكتئاب والجنون، ومات وحيدا في منزل فخم واسع، واتصل الجيران بالشرطة حين فاحت رائحة جثّته. وقد أرسل لها بقيّة المبلغ قبل وفاته كاستغفار أخير.

بعد الصدمة التي تعرّضتْ لها، ابتاعت فيلا مطلة على البحر وأخذت والدها للعيش معها، وظّفتْ له ممرضة، وكانتْ تجلس معه كلّ يوم، وبدلا من أن تحاول تذكيره من هي، كانتْ تكتفي بأن تقول إنها ابنته، ثمّ تخبره كم كان عظيما وتحكي عن الاكتشافات والجوائز التي حقّقها وحازها، كانتْ كلّها أكاذيب، لكنّه كان سعيدا جدا، وبأيّة حال.. كان ينساها بعد ستّ دقائق! أعجبني هذا الأسلوب، لتفهم أنّ هذا الشخص لم يعد يعيش في عالمك، عليك أن تذهب معه إلى عالمه. لا شيء يضرّ، طالما هو سعيد.

يقول الكاتب في الخاتمة: (السؤال الذي طرحته على نفسي هو كيف تصرّفتُ لأصل إلى هذه النقطة في الكتاب ولأغدو أكثر قربا من النساء وأفهمهن على أحسن وجه؟ إنه الحنين. كتبتُ هذا الكتاب لأني أحن إلى أمي، ومع أنها لم تكن قط بائعة في حانوت أدوات خياطة، لكنها كانت تحيك. كنتُ أحنّ إلى كلماتها ونظرتها للأشياء، فاختلقتُ جوسلين. والجواب موجود أيضا في لطف روح النساء اللاتي يعشن معي، زوجتي وبناتي الثلاث).

أمّا اقتباسي الأخير والمفضّل، فهو من المشهد الذي تجلس فيه جوسلين على شرفة منزلها، وبجانبها الرجل الذي صادفها قبل سبع سنوات في فترة النقاهة على شاطئ البحر، وعرفها بمجرّد أن اتصلت به بعد فرار زوجها بالمال، هذا الرجل يحبّها وانتظرها طويلا، وسيحبّها أبداً كما يبدو، لكنّها تقول:
(أغنّي لنفسي، بصمت:

أين ذهبت اللحظات الجميلة
لحظات الحنان والمتعة؟
أين العهود؟ ولماذا تغير كل شيء بالنسبة لي
إلى الدموع والألم؟
ولماذا ذكراهم لم تغادر قلبي؟

أغنّي ووجهي ملتفت نحو البحر المظلم. إنّني محبوبة، لكنّي لم أعد أُحِبّ).

إنّ الحبّ الذي يعيش سنوات في قلب امرأة تجاه زوجها ويغتاله هذا الرجل فجأة، لا تذهب جريمته بالحبّ وحده، بل بقلبها كلّه.
—-
* ملاحظة: ترجمة الرواية حرفية سيّئة، ومضلِّلة في كثير من المقاطع. عدّلتُ كثيرا في صياغة الاقتباسات.

24.10.2019