زلزال في الزنزانة

الأصوات من حولك بعيدة، أنت غارق في ماء بارد لا تعرف من أين أصابك، لا تقدر أن تتحرّك، أو تتكلم. تغيب في عتمة غريبة ثم تجد نفسك فجأة واقفا والضوء المبهر يعمي عينيك لحظة، أخيرا تتضح الصور شيئا فشيئا، يزول الغبَش، وترى الهول.
(تعالوا.. في صوت هون..)
يصيح واحد، فترى عشراتٍ يتدافعون في اتجاه الصوت كأنهم في الحرَم، أنتَ لم تزر مكّة قطّ، كنتَ تراها في التلفاز وتندهش كيف يمشي كلّ هؤلاء الناس دون تصادم، كأنّهم موجة عظيمة تعرف اتجاهها ولا تخالفه.. موجة مهيبة.
اليوم ترى الموجة، بلا كعبة. كيف ركضوا كلهم وما اصطدم بك أحد؟ هل شفّت عظامك ورقّت من الجوع وبرد الزنزانة حتى صرتَ خفيّاً؟
تنظر حيث وقفوا، إذاً.. هذه الخرابة كانتْ بيتاً، هدّته البراميل الساقطة من السماء. الكلّ يحفر وينبش بالأيدي والأظافر التي ذابتْ وراحتْ تدمي، لا أحد يتوقّف.. لا أحد ينظر نحوك.
فجأة لا تسمع إلا الصمت، ودقّات قلبك في أذنك، كأنّك نائم عليها وثمّة ما يضغطها. تستدير حول نفسك دورة كاملة على مهل، كيف وقعتْ كلّ هذه البيوت وانمحتْ هكذا؟ هل قذفوا قنبلة ذرّية؟! أو مئة برميل دفعة واحدة؟
البرد، آه من البرد والبلل. فقط لو تعرف من أين يأتي، لو تجد ما تلتحف به.
تفكّر فجأة: كيف خرجتُ من الزنزانة؟ ومتى؟ وكيف لا أجد أحدا من أهلي يستقبلني؟
تعود الأصوات إلى سمعك كمن يرفع صوت الراديو من الخلفيّة إلى المقدّمة:
هزّة هزّة يا شبااااب.. ارجعوا ارجعواااا..

هزّة؟ الآن تفهم، الأرض ترتجف كأنّها قدرٌ يغلي، لماذا؟ أنتَ لم تعرف شيئا كهذا في حياتك.
تنظر للمتهدّم حولك فتراه يتهاوى أكثر، ترى شقوقاً تنمو في الأرض سريعا كعروق اليد. هل هذا ما درسته في الجغرافيا.. زلزال؟!

الموجة البشرية نزلت عن الأبنية الخرِبة، وتجمّعت في الأرض الخاوية، بانتظار انقضاء الهزّة. العيون تتبادل القلق والترقّب. بعض الأيدي تستند إلى بعضها، وبعض من يرتدون السترات الصفراء لا يطيقون صبراً، يصيح واحد منهم بصوت ٍ قاطع:
اذا رح نستنى تخلص بجوز ما يطلعوا!
ويتحرك حيث كان وبيده معول، دون أن يقول أكثر، أو ينتظر أحدا. ودون أن يقولوا شيئا يتبعونه.
هل رآهم من قبل؟ هل يعرفهم؟ لا يذكر.

فتح عينيه فجأة، الآن عرف أن أذنه كانت ملتصقة بباطن كفّه الذي افترشه كمخدّة على أرض الزنزانة المبلولة بماء رشّه السجّان في موعد النوم، ليُمرض السجناء الثلاثين في الغرفة ذات المتر والنصف مساحةً، ذات الرئة، الالتهاب الشعبي، الربو، السلّ، أيّ شيء وكلّ شيء.. يوزّع وسائل الموت كالحلوى.
من ينجو من التعذيب والصعق والحرق والشبح والضرب والجنون والذهان، لن ينجو من هذه. سيموت بشيء ما حتماً، ويفرغ مكانا لسجين آخر ليقضوا عليه.

أراد أن يتقلّب، فسمع عريف الزنزانة يهمس له: لك اشبك جنّيت؟! مو وقتك تتحرّك. استنّى.. نام نام.. بس يخلص وقتك بفيقك.
تذكّر أنّه من أربع سنوات ينام بالدور، كالسردين في العلبة، بالتناوب مع زملاء السجن. تضحكه كلمة زميل، يشعر أنها خارجة من كتالوج ربطات عنق، لم ير مثله في حياته، لكنه يتخيّله بسهولة، من كثرة قراءة الكتب. كان يقرأ بالانجليزية حتى أثناء القصف، يقرأ كل ما يجده وما يمكنه الوصول إليه.


بعد نزوح أهله إلى الشمال السوريّ، اعتاد الهدوء النسبيّ، والقراءة أكثر.
ذات مرّة، أقنع أهله أن صديقه يعرف طريقا لمناطق النظام، سيذهب للبيت الذي لا يبعد سوى مسيرة نصف ساعة على الأقدام من مكان إقامتهم الجديد. كان يجد الأمر (مسخرة)، هذا الخط الفاصل، الخط غير المرئي والمليء بالحواجز والثغرات، يفصل بين الحرّية والعدَم.
كان يردّد: على الأقلّ نحن نملك الحرّية، أما من بقي هناك، فلم يعد يملك حياة أصلا، لقد سرقوا كلّ شيء منهم، حتى الحلم والصوت والشعور.

لم يخطر في باله أنهم سرقوا أيضا: الشرف والضمير.

طبعا لم يرضَ أهله، طبعا حاولوا قدر جهدهم مراقبته، وطبعا.. فشلوا، وخاض المغامرة ونجح في العبور.
وصل إلى البيت، كان فيه قريب لهم مع عائلته. دقّ الباب، فتح القريب، تسمّر مكانه ولم يعرف ما يقول. سأله بخجل رغم أن البيت بيته: ألا تدخلني؟
أفسح له الطريق ولم يبد على وجهه أي تعبير، فقط صاح: عطونا طريق! لتحتجب النساء في الغرف الداخلية.
دخل وجلس وهو يتأمّل البيت والأثاث، لم يتركوه سوى من بضعة أشهر، أين ذهب معظم الأغراض؟
قال مباشرة: جيت آخد كم غرض لأهلي.
نظر القريب نظرة منزعج، سأله: غرض ايش؟
ارتبك من الأسلوب، قال: يعني.. في اغراض لأهلي وكم كتاب بدّي اياهم.
بقي ينظر إليه النظرة المنزعجة، وسأله بنبرة أكثر تشكّكا:
كم كتاااب؟! شلون عبرت الحواجز؟ وشلون رح تشيل معك اغراض وترجع فيهن؟!
أجاب بهدوء: هي شغلتي، بدبّر راسي.
هزّ القريب رأسه، وسأل: والاغراض وين؟ أنا بجبلك اياهن..
ردّ سريعا: لا، أنا بعرف وينن وأنا بدخل بجيبن.
بغضب: شلون يعني تدخل؟ في نسوان جوّة! البيت مو فاضي..
ارتبك الشاب، قال: اي معلش هي غرفة أهلي، يطلعوا منها لأجيب ه الكم غرض.
سكت وراح يرمقه، ثم نهض دون كلمة. سمعه يصيح بالنساء، عاد إليه، وصحبه إلى الغرفة.. وقف لحظة معه بالباب، وقال بحدّة: هالخزانة فيها اغراضنا، لا تفتحا!
هزّ رأسه واتجه إلى خزانة أخرى، وحين فتح الباب استدار ليرى ردّة الفعل، فاجأه أن الرجل ابتعد. أراحه الأمر ولم يفكّر، بدأ يحمل الكتب، مصوغات أمّه الذهبية التي أخفتها بطريقة متقنة، كان يعرف مكانها لأنها أوصته أن يحملها حين خرجوا من البيت، لكنه لم يجد الفرصة إذ غادروا مسرعين. كان منزعجا ويشعر بالذنب طيلة أشهر، أراد أن يعوّض أمه دون أن يخبرها.

في ذلك الوقت، كان القريب قد أنجز مهمته بنجاح. حين خرج من الغرفة، مشى إلى الباب، فلم يستوقفه. أدهشه ذلك، واندهش أكثر حين ودّعه على الباب ودعا له بالسلامة، ولم يسأله ماذا أخذ وماذا ترك. كلّ هذا لم يحرّك فيه سوى الدهشة، وكان هذا خطأه.

استقبلته قوّات النظام عند رأس الشارع، رموه في السيارة، دلقوا محتويات الحقيبة، مزّقوا صفحات الكتب وراحوا يشعلون اطرافا منها ويتسلون بإحراقه، لم ينتظروا حتى يصل الزنزانة. أما الذهب.. فقد ذهب.

هكذا راح ولم يرجع. وانتظر أهله أسابيع طويلة ليعرفوا ما حلّ به، ولم تنفعهم تلك المعرفة سوى حرقة القلب.

أربع سنوات، لماذا لم يمُت؟ لأنّ أجله لم يحِن بعد. لكنّه كان يتساءل أكثر: كيف لم أمُت؟ رغم كلّ الويل والهول.. كيف لم تزهق روحي؟
كان يأمل أن يموت فيَصل الخبر إلى أهله فيرتاحوا، لأنّ خبر (ميّت) خيرٌ ألف مرّة من خبر (ما منعرف عنّه شي).

الآن، راح يرتّب الأشياء في عقله، أصوات التعذيب التي لا تنتهي أبداً، يضعها في الخلفيّة البعيدة، صوت نبضه، في الخلفية القريبة، والتسلسل الزمنّي الذي ينتهي بصبيحة هذا النهار، حين اهتزّت بهم الأرض، لم يفهموا ما حدث إلا بعد انهيار بعضِ قطعِ السقف على رؤوسهم، وكأنّ الزنزانة تريد أن تصير قبراً حقيقياً وتردمهم وتُنهي الأمر.
سمعوا أخيرا وفهموا، زلزال عنيف ضرب جنوب تركيا، أحياء وأناس وقصص انمحت من وجه البسيطة. وشمالُ سوريّةَ الجالسِ في العراء من كلّ شيء إلا من رحمة الله، المنقطعِ من كلّ أملٍ إلا بالله، تساقطَ منطقة تِلو أخرى، حتى تساقطت أبنيةٌ في حلب، حيث هو، والزنزانة.

سمع السفلة يضحكون، يشمتون بالخلق. سمعهم يحكون عن المدن والمخيّمات التي تهاوتْ. ردّد الاسم في سرّه. كان قد نسي الأسماء، حتى اسمه.. صار مجرّد رقم في زنزانة.
اليوم استعاد ذاته، تذكّر أهله، ولسبب ما، عرف أنهم رحلوا. دون أن يخبره أحد.


لما انتهت نوبة نومه، قام عريف الزنزانة يوقظه، ناداه، لم يردّ. هزّه، ما تحرّك. قلبه من جنبه على ظهره، رأى ابتسامةً على وجهه وعينيه نصف مغلقتين. كان أوّلَ ميّتٍ جميل يراه في السجن.

أخرجه الرفاق، وحين جلسوا صامتين، قال العريف: الله يرحمه.. أكيد مات من البرد. حاول يتقلّب وأنا ما خلّيته، شكله كان بردان وبدّه يحرّك دمّه. دمعت عيناه وغلبه البكاء. أحسّ بيد تربت على كتفه، التفت، فسمع صاحبها يقول له: لا يا خَيّ.. أنا كنت نايم جنبه، سمعته عم يقول: يا رب ألحقهم، يا رب ألحقهم.. وربنا استجاب دعوته.
الحمد لله ما تأخّر عنهم.

14.2.2023


وتحسب أنك نسيت

تظن أنك نسيت، لكنك لم تنس.
خمسة عشر عاما مرت وما زالت أدق التفاصيل حاضرة.
هذه الضوضاء من ورشة البناء البعيدة، تذكرك بصوت مقلع الأحجار البعيد في نهاية المرتفع، هناك يفجّرون الصخر وينحتون الحجارة التي بنَت مدينتك قبل اختراع الإسمنت، ومنحتْها لقبها الجميل: الشهباء.
الطقس الصيفي الذي يبدأ باردا منعشا بعد الفجر، وسحب خفيفة تتمشى أمام عين الشمس، ثم تزداد الحرارة ببطء حتى تصير الظهيرة قيظا لا يطاق. رائحة غسيل الجيران النظيف، رائحة البلاط المغسول، وخزانات الثياب المفتوحة للتهوية.
رائحة تقلية ثوم تأتي من مطبخ بيتٍ ما يجهّز للغداء.
صوت جرس المدرسة القريبة وأصوات الأطفال ينفلتون بصخب في ساحتها.
سيّارة عجِلة تمرّ سريعاً ويعلو صوت البوق.
رائحة ديزل من الشاحنات والباصات، تختلط برائحة الخبز الطازج من مخبز قريب.

أنت تعلم تماما أنّ هذا كلّه لم يعد موجوداً، لأنّ مدينتك صارتْ (أخطر مدينة) على سطح الكوكب، دخلتْ الموسوعات العالمية من أكثر الأبواب وجعاً.
لم يعد لكَ فيها سوى بضعة أحياء، والبقيّة امتلأت بهم القبور، أو السجون.
هذا الذي تستحضره لم يعد موجوداً، هو مجرّد صورة في الذاكرة.

مع ذلك.. أنت تبكي، كأنك غادرتها أمس.. وكنتَ تحسب أنك نسيت!

هامبورغ. 3.6.2021


ما برد الشاي

لا قيمة للساعات ولا التواريخ هنا، نحن في ذلك الجزء من العالم الذي نحسب فيه الزمن بالقذائف والصواريخ، وعدد المرّات التي نندفع فيها لنلبّي صافرة النجدة.
الرزنامة عبارة عن جداريّة موت: يوم الهجوم، يوم قصفٍ لم يتوقّف، يوم بناياتٍ عدّة سقطت دفعة واحدة، يوم أخرجتُ هذا الصغير بعد أربع ساعات من المحاولة، يوم انتشلنا خمسةً وعشرين شهيداً.. ولا ينتهي الإحصاء القاتل.

وصلتُ البيتَ أخيراً، دخلتُ، سلّمتُ، توضّأت، صلّيت، وجلست. ركضتْ إليّ الصغيرة وقد أطلقتْ أمّها سراحها أخيراً: شوي شوي على بابا.
حاولتُ أن أحضنها وهي تحاول أن تتسلّقني، مرّة من خلف ظهري فتنقلب في حجري وهي تضحك وتكركر، ومرّة تتعلّق بقميصي من أمامٍ وتدوس بقدمها الصغيرة في صدري، فتزلق وتقع على رجلي وتكرّ بالضحك مرّة أخرى حتى أضحك: اللهم صلّ عالنبي..
تردّ أمّها من المطبخ الصغير:
* هلكتني كلّ النهار الله يحميها، ما في غير تركض وتنكش خواتها، ما قدرنا نقرأ ولا حرف اليوم.
– لسّه عم تحاولي معهم؟ الله يعطيك العافية..
* إي طبعاً، بيلتهوا عن الأصوات والرعبات، وبيرجعوا شوي للوضع الطبيعي.

يرجعوا للوضع الطبيعي؟ وهل عرفنَه قبلا ليرجعن إليه؟! لقد وُلدن ثلاثتهنّ في هذا الوضع، في زمنٍ يُكتب بالدمّ على رزنامة الموت.

“باباااااا”
اندفعتْ الوسطى ترمي بنفسها عليّ: أثقل من ريشة (أختها الأصغر) ، وأخفّ من فراشة (أختها الأكبر). هكذا كنتُ أصفها دائماً.
تسأل بلهفة: – اليوم كم مرّة طلعتوا؟ لا تقول.. أنا.. أنا بقول..
تعدّ على أصابعها الصغيرة، كم مرّة سمعتْ صافرة النجدة، وكم مرّة حلّقت طائرة القصف، لتعرف كم مرّة خرجتُ اليوم لأنقذ أطفالا مثلها!
يا الله كيف تبسّط براءةُ الأطفالِ كلّ الأشياء المعقّدة، إلى بُعدين فقط: سعادة أو حزن، خسارة أو ربح. بالنسبة لها، وبميزانها الطفولي البسيط، إذا زاد العدد فهو ربح! هذا يعني أنّي (بطل)، لأنّي عملتُ كثيراً في هذا اليوم. ولكنّ هذا النوع من العمل ربحهُ خسارة! هي فقط لا تعرف.. ولا أريدها أن تعرف.
Continue reading