شهر عبادة وعمل

رمضان يأتي بصوت أبي رحمه الله يقرأ القرآن وهو الذي ختمه حفظا وقد جاوز الستين. يذكّرني بمشيي معه إلى المسجد لحضور التراويح في جامع إسكان حيّ المعذر في الرياض، حين كنت لا أزال في الثانوية.
بأيام الحرّ التي صمناها مع دوام الجامعة، ومن يعرف حرّ الرياض ظهرا، سيعرف لمَ كان أبي يصرّ أن أجلس في المقعد الخلفي كي لا أتعرض للشمس؛ ومكيّف سيارته يتعطل مرات كثيرة مثل كلّ السيارات التي لا تحتمل تلك الحرارة الرهيبة. رمضان يحضر إلي دائما بصوت غلاية الماء القديمة في مطبخ أمي التي تعدّ السحور، وأبي يتلو في غرفة الجلوس، والأصوات كلها رتيبة هادئة.
لماذا لا أتذكر الإفطار ولا أستحصر صوره؟ لأنه غالبا يكون على عجالة، بلا هدوء.. متعباً لنا، إذ نعمل قبل الإفطار وبعده. حتى آخر رمضان حضرته في الرياض، لم أستحضر فيه أية روحانية، كان في إجازة الصيف، وكانت صفية وسمية صغيرتان.. وكانت جدتي رحمها الله في عامها الأخير. حرّ وإجازة وصيام. لقد اعتدتُ رمضان مع الدوام.. قد يبدو هذا غريبا، لكنه أفضل وأجمل. حتى زوجي يفضّل أن يعمل في نهار رمضان، لأن ذلك يشغله.
هذا العام في السعودية، قررت وزارة التعليم أن يستمر الدوام في رمضان، وهذا ما كنا اعتدنا نحن صغارا عليه، لكن جيل الأبناء هناك لا يعرفه. معظمهم نشأ ورمضان إجازة. سمعت تثاقل صديقاتي الأمهات.. فابتسمت. المشكلة ليست في الدوام، بل في تغيير العادة التي استمرت سنوات: ينامون حتى الظهر ويستيقظون قرابة العصر! فلا يصومون سوى خمس ساعات على الأكثر، ليقضوها في جو مكيف بارد، ثم يكون الإفطار بأصناف كثيرة ومرهقة ومكلفة، وسهرات جماعية لا علاقة لها بالعبادة.
رمضاننا هنا متعب، لكنه جميل. شهر عمل ودراسة وعبادة، لا يوجد ما يشغلنا.
أما العادات التي غيرتها لأسرتي ومن حولي منذ بضع سنوات، فهي عادات مزعجة ومتعبة ولا علاقة لها برمضان:

  • ألغيت العزائم،فأنا لا أدعو أحدا ولا أقبل دعوة أحد. أما زوجي وبناتي فيذهبون للإفطار عند أهله لو تمّت دعوتهم. أستثني يوما نحضر فيه إفطار الخيام الرمصانية الجماعي.
  • لا أشياء مقلية، ولا سمبوسة، ولا حلويات تستغرق وقتا وجهدا كالقطايف. نعم.. أنا أعدّ القطايف على مدار العام وأتوقف عنها في رمضان. باختصار، أي طعام ثقيل على المعدة ومتعب في التحضير، ألغيته خلال الشهر. طعام عادي جدا، حساء وسلطة وأي طبق من المعتاد.
  • أسأل البنات ماذا يشتهين وأعدّه بكميات أقل من الأيام العادية، لأني أعرف أننا نأكل جميعا أقل خلال فترة الصيام. وأحيانا أرفض إعداد بعض الأطباق لأني أعلم أنها مجرد شهوة صائم، وستفقس عند الإفطار. الأمر يشبه التسوّق وأنت جائعة. الطفل لن يتغير في رمضان فقط لأنه صائم. لذلك أستمر على الطهو المعتاد الذي أنا متأكدة أنهم يحبونه.
  • العمل في المطبخ ليس حكرا علي، الجميع عليه أن يشارك قبل المغرب وبعده. وقد اعتادت البنات على العمل وهنّ صائمات.. وعلى جمع الأطباق بعد الإفطار.
  • صلاة المغرب جماعة تقام في البيت، وعلى الجميع الالتزام بها طيلة الشهر. نفطر على تمر وماء وتأخذ البنات حلوياتهن، ونصلي ثم نأكل. وقد يبدو هذا النظام عاديا وسهلا لمن نشؤوا في السعودية، لكني لاحظت أنه صعب جدا على من نشؤوا في مجتمعات أخرى. وهم يميلون لتناول إفطارهم كله دفعة واحدة ثم النهوض للصلاة.
  • لا أعدّ مائدة سحور، بل طبق سحور لكلّ بنت، وأوقظهم قبل الفجر بعشرين دقيقة. هكذا يأكلون سريعا ويصلون الفجر ويعودون للنوم قبل موعد المدرسة في السابعة.
  • أصحو مع بناتي للمدرسة بشكل عادي، وأبقى نهاري في شغل، فالعمل والدراسة عبادة، والعمل يجر العمل. أما التفكير أني صائمة ومتعبة ولا أستطيع عمل شيء، سيجر علي الكسل حتى بعد الإفطار.
  • لا أضغط على نفسي لإتمام ختمة خاصة برمضان، بل أتابع ختمتي اليومية العادية. أزيد فيها صفحات وأزيد عليها القراءة في التفسير والاستماع لأي دروس في علوم القرآن وتدوين ملاحظات.

وأذكر رمضان الصيف قبل خمسة أعوام، كنت أتجنب الخروج في نهاره ليس تجنبا للعطش فحسب، بل امتناعا عن رؤية المناظر الفظيعة في الشارع! وقد كان نهار صيامنا في الحرّ يصل إلى عشرين ساعة، وفترة الإفطار ما بين العاشرة والثانية صباحا! وقد صمناه ونحن في عمل ودوام، وصمتُ رمضان حاملا في شهوري الأخيرة مرّتين، رغم معارضة الطبيبة، ولكن الحمد لله أفادني الصيام في تخفيف حبس السوائل في الجسم ولم يضرّني.

أنا لا أروّج لنظامي وأقول إنه يصلح للجميع، فأنا أعرف زوجا يمكن أن يطلق زوجته لو لم يجد مائدة إفطار عامرة كما اعتاد، ومع أنه لا يأكل ربعه فهو يؤكد أن المنظر هو ما يريده!. لكني أردت أن أقول إن ما يبدو مشكلة وصعوبة، هو فقط تغيير عادة.. وهذا هو الهدف من رمضان: تغيير عاداتنا الشخصية التي تبقينا في منطقة الراحة على مدار العام، إلى الحدّ الذي لا نرى معه كم هذه المنطقة مؤذية لنا، ومخالفة لمنهجنا كمسلمين، فلا راحة لمؤمن في هذه الدنيا.. ومتى وجد المؤمن نفسه مرتاحا، فليتفقد دينه.

  • في الصورة تغيير بسيط في (فطورية) هذا العام للبنات، لأني لاحظت أن اللوحة التي كنت أستخدمها منذ ثلاثة أعوام والتي تضم عشرة أيام لكلّ واحدة، كانت تجعل البنات يفطرن قبل الوقت بسبب رؤية الحلويات فيها! فاكتفيت هذا العام بكيس أضعه قبل الإفطار بساعة او ساعتين في المطبخ على هذا الرفّ. وحكاية قصة من قصص القرآن بشكل موجز جدا وقت تجهيز المائدة للإفطار، وليس بالضرورة بشكل يوميّ، لكننا نحاول.

تمنياتي بالتوفيق لأبنائنا في صيامهم وامتحاناتهم المدرسية. ودعواتي بالصبر والأجر للأمهات والآباء. وكما تقول لي أمي دائما: هذه الأشياء واللحظات هي التي ستبقى مع الأبناء حين يكبرون.. وقد صدقتْ، فقد بقيت معي.


{ ٱعۡلَمُوۤا۟ أَنَّمَا ٱلۡحَیَوٰةُ ٱلدُّنۡیَا لَعِبࣱ وَلَهۡوࣱ وَزِینَةࣱ وَتَفَاخُرُۢ بَیۡنَكُمۡ وَتَكَاثُرࣱ فِی ٱلۡأَمۡوَالِ وَٱلۡأَوۡلَـٰدِۖ كَمَثَلِ غَیۡثٍ أَعۡجَبَ ٱلۡكُفَّارَ نَبَاتُهُۥ ثُمَّ یَهِیجُ فَتَرَىٰهُ مُصۡفَرࣰّا ثُمَّ یَكُونُ حُطَـٰمࣰاۖ وَفِی ٱلۡـَٔاخِرَةِ عَذَابࣱ شَدِیدࣱ وَمَغۡفِرَةࣱ مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضۡوَان وَمَا ٱلۡحَیَوٰةُ ٱلدُّنۡیَاۤ إِلَّا مَتَـٰعُ ٱلۡغُرُورِ }
[سُورَةُ الحَدِيدِ: ٢٠]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

:heart5: :cloud2: :happy: more »

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.