هل تتخيّل إنّي خرجتُ من البيت كله لأكتب هذا عنك؟ ولم يكن أحدّ سواي فيه.
ذهبتُ بدرّاجتي الهوائية إلى مكان جميل أعرفه، ساحةٌ واسعة نصف ظليلةٍ أمام مقهى جميع روّاده من الألمان، فضوليون ولكن (من بعيد لبعيد). أوقفتُ الدراجة وجلستُ على المقعد الحجريّ الطويل الهلاليّ الشكل، أخرجت دفتري وشطيرة الزعتر باللبنة والخيار، وشرعت أقضم وأكتب، والهواء الذي يهبّ يكاد يقلبني أنا والدراجة، رغم الشمس الساطعة والحرّ والرطوبة.
منذ زمن طويل طويــــل حقا، لم أكتب لك. لقد (سُحِلتُ) في خلاط الحياة العجيب، ولا يكاد الخلاط يقف لأنزل منه وألتقط أنفاسي وأحاول التوازن بعد كلّ هذا الدوران، حتى أسمع الصفير الذي ينذر ببدء الدورة التالية، وأودّ حينها لو أصرخ:(خلااااص.. مِش لاعب!) لكنّي أعرف أنّ الخيار هنا ليس لي.
مضى زمن طويل لم أستعن بكَ نفسيّاً، ولم أستحضركَ كروح خيّرة لتصرف الأرواح الشرّيرة المزعجة التي تملأ رأسي ويعلو صوتها بمجرّد أن يقف خلاط الحياة: الأوهام، والمخاوف، والقلق الذي يدور حول نفسه في جنون ككلبٍ أحمق محاولا عضّ ذيله!
كنتُ أظنّني نسيتك إلى ذلك الحدّ الذي لو حاولتُ أن أتذكّرك، فلن أقدر. لكنّي فعلت اليوم، ووجدتُك في مكانك في رأسي: في تلك الغرفة الهادئة المليئة بكتب لا تنتهي، تجلس مواجهاً للنافذة. نافذة بعرض الجدار الصغير، كافية لدخول كل شيء:
نور الشمس في الربيع، وظل الشجر في الصيف، والهواء في الخريف، والرعد في الشتاء.
كافية لدخول رائحة السرو النديّ، ورائحة البحر في يوم صيفي رطب، ورائحة الرمل بعد المطر، ورائحة غامضة تختلط بين الياسمين وملكة الليل.
كافية لدخول صوت الحمام والبوم والنوارس الحوّامة وصرصور الحقل.
إنها نافذة كبيرة بالنسبة للغرفة لأنها تحتل جدارا كاملا، ولكنها صغيرة بالنسبة لمساحة الكون خارجها. كافية لدخول شيء صغير من كل شيء، كي تبقى أنتَ منتعشاً، قادراً على هشّ تلك الأطياف القاتمة بحركة يد واحدة منك.
تجلس وتقلّب في تلك الكتب. لكن.. لا.. هذه ليست كتبا، إنها مجلدات حياتي: كل ما أذكره وما نسيته. مشاعري التي انتهت والتي ما زالت مستمرة. خواطري التي لا أقتنصها إلا نادرا، وأفكاري التي تنتهي وتذبل وتذوي بعد نشأتها لأني لم أزرعها فورا في مكان ما، الكثير من الفسائل والشجيرات قد ماتت قبل أن أستوعب وجودها أصلا. لكنها قبل موتها منحت وجودك زاداً وقوّة.
من العجيب أنّي وأنا اليوم في الأربعين من عمري، ما زلتُ أراكَ كما كنتُ أفعل قبل عشرين، أو ثلاثين، أو.. لا أعرف حقا، يبدو لي أنك كنت دائما هناك، على وجهك ابتسامة واحدة لا تتغير. مرّات تكون ابتسامة يأس، ومرّات هي ابتسامة المعرفة المرّة؛ معرفة من نوع: آآه لقد عرفتُ ولكن.. ليتني ما فعلت!
رأيتك جالسا هناك تقرأ بحرية كل ما يدخل الغرفة. لكنّك لستَ طاهر الذيل تماماً، فقد لمحتك تختلس قضمة من الذكريات هنا، وقطعة من الأفكار هناك.
تقول إنّك تنظّف عقلي أوّلا بأوّل كي لا تتراكم الفوضى؟ يا لك من داهية!
بعض أولئك الذين يتكلمون في رأسي، يقولون إن علي أن أخافك، أخاف ما تفعله، وأن أقضي على وجودك.
حسنا، إني أتساءل: لماذا علي أن أخاف؟! إنك محبوس للأبد في تلك الغرفة. لا أحد يعلم بوجودك سواي، ولا صوت لك.
اسمك؟ هويتك؟ ملامحك؟ كلها غير موجودة في أي سجلّ مدنيّ سوى سجلّي الشخصيّ. مجهولة للكل عداي.
يوما ما سأفنى، فتفنى أنت معي. يوما ما، سأشيخ ويتلف عقلي رويدا رويدا، وينقطع إمدادك وغذاؤك من ذكرياتي. يومها ستذوب وتتلاشى. وكما عشتَ شبحا في عقلي، ستصير شبحاً في العدم.
٢٢ محرم ١٤٤٦