ترجّلتُ عن درّاجتي ووقفتُ أطالع لوحة المعلومات عند بوّابة المقبرة، لأتأكّد أنّي لو دخلتُها فسأجد الطريق المختصر للعودة من المنتزه الكبير إلى البيت مباشرة، دون المرور بالطريق السريع.
ونظرتُ في خرائط الهاتف، التي قالت لي إنّ الطريق لن يأخذ أكثر من اثنتي عشرة دقيقة، فدلفتُ وأنا أسحب الدرّاجة قربي.
عبرتُ الجسر المعدنيّ الذي يعقب المدخل مباشرة، وتتفرّع الطريق الترابية الواسعة من بعده إلى ثلاث طرق: أماما، يمينا، شمالا.
كنت أعلم أن طريقي هو (اليمين)، لكنّي وقفتُ لحظة ألقي التحيّة: سلامٌ عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون. وأنا لا أعرف على وجه الدقّة المكان المخصّص للمسلمين في هذه المقبرة، لكنّي نويتُ تحيّتي لهم، وقد أخذ السكون الشديد بنفسي، فحتى العصافير كان صوتها خافتاً، ولعله كان تائهاً وسط هذه المساحة الهائلة من العشب والشجر العالي الغابيّ، وانعدام الحركة، والخلوّ من الإنس.
وقبل أن أسلك الطريق إلى وجهتي، رأيتُ في الدرب الممتدّ أمامي عائلة يبدو من ملابسها أنّها من بلاد الهند والسند، وكانوا يجرّون حقائب وأدوات نزهتهم، فأدركتُ أنهم سلكوا طريق المقبرة لاختصار درب العودة، مثلما فعلتُ.
//وما أعجب حالنا في هذا: أن يكون طريق الموت هو آمن وأسرع وأيسر طريق لعودتنا إلى المأوى والسكن! فكأنّ هذه الدنيا كلّها مجرّد نزهة ساعة، نأخذ فيها قليلا مما نحتاج، ونُثقل كواهلنا بالكثير مما لا نحتاجه، حتى إذا مالتْ شمس النهار نحو مغيبها، أخذنا طريق الموت بتعجّلٍ كي نصل إلى المستقرّ.//
وبدأتْ الوحشة تتسلّل إلى قلبي، وقد لاحتْ شواهد القبور المختلفة بأنواعها وارتفاعها، تحمل بجانب الأسماء علامة الصليب. فركبتُ درّاجتي، ورحتُ أقود على مهل، وأنا أتأمّل، حتى لاحتْ لي صخرة كبيرة، نُقشت عليها بالألمانية كلمة واحدة: زوج.
فتأمّلتُها لحظة: أهو شخص لم يعرفوا له اسماً فكنّوا عنه بهذه الكلمة وفاءً لدوره في الحياة؟
ثم وقد قطعتُ مسافة إلى رقعة أخرى، وجدتُ صخرة مماثلة، وقد نُقش عليها: جدّ.
ولما لم أكن قد زرتُ مقبرة في حياتي إلا مرّتين، هنا في هامبورغ، وكلاهما كانتا مروراً كهذه المرّة.. فلم أفهم معنى هذه الصخور.
فلما لاحت الصخرة التي تليها: ابنة، وقُربَها بعض الشموع والزهور الذابلة، أضاء الفهم في عقلي، وصحبتْه هجمة حزن هائلة لم أكن أتخيّل أنّي ما زلتُ ثادرة على الإحساس بها: كانت هذه الصخور من وضع البلدية أثناء تنظيم المقبرة نفسها، لتقول لمن فقد أحدا ولم يُدفن هنا، إنّ له أن يذكره ويزوره بحسب مكانته من حياته. وهكذا توالت الصخور: جدّة، أمّ، زوجة، أخ.. أب.
أتراهم تعمّدوا المجاورة بين آخر كلمتين؟ أكانوا يدركون كم يكون الأخ أباً؟ وأنّ فقد الأب لا يبرد ولا يتغيّر مهما مرّ عليه من زمن؟
وبينما راحت عجلات درّاجتي تتسارع باتّجاه المخرج، كانتْ الخواطر التي توالتْ على ذهني تتساءل عن حال سكّان تلك المقبرة، من ماتوا وهم لا يؤمنون كما نؤمن بنعيم القبر وعذابه، ولا يعرفون كما نعرف، أنّ الميّت يأنس بدعاء الأحياء له، وسلامهم عليه.
وتخيّلتُ لحظة لو أنّي نسيتُ الدعاء لأبي في صلواتي، أكان يعتب عليّ أو يحزن أو يضيق قبره ويعتم ويستوحش فيه؟
ووصلتُ البوّابة الصغيرة، فمرقتُ خارجة منها. وفي الشارع الجانبيّ الهادئ، وأنا أعدّل قبّعتي اتّقاء للشمس التي ما زالتْ حادّة، رأيتُ رجلا ستّينيّاً يتمشّى ويمعن النظر لوجهي بابتسامة شاحبة تعلو وجهه، فأدركتُ أنّه لم يكن يتعجّب من منظر محجّبة على الدرّاجة، بل كان ينظر لملامحي التي بانت عليها آثار بكاء لم أكن واعية به حتى غادرتُ.
إنّ الموت هو الحلّ الحقيقيّ الوحيد، لجميع مشاكل الدنيا، لكنّه نهاية فرصنا في حلّ مشاكلنا في الآخرة!
إنّه المحطّة التي تنتظرنا جميعاً على خطّ الحافلة التي تشقّ طريقاً صحراويا وعرا موحشا، تمشي ولا نرى لطريقها من نهاية كأنه ممتدّ للأبد، ثم ندرك بين لحظة وأخرى حين تقف الحافلة فجأة وينادي السائق راكباً باسمه ليترجّل بكلّ متاعه، أن ثمّة محطّات على هذا الدرب، وأنّه لا بدّ من نهاية، وإن بدا المسير أبديّاً.
وينزل المنادى عليه في محطّة على جانب الطريق في اللامكان، واللاشيء. وهكذا نتركه ذاهلين ونحن نرجو السائق تارة أن يتوقّف ويعيد الراكب الذي سيهلك حتماً في هذه الصحراء، أو نهاجم السائق تارة وكأنّه يفعل ذلك لثأر شخصيّ مع الركّاب.
إلا أنه يطالعنا في مرآته ويقول بهدوء: لا تقلقوا، لقد كان منشغلا بإعداد حقائبه طويلا، ولعلّ زوّادته تكفيه.. إن شاء الله.
فنسأله: تكفيه لماذا؟ فيردّ: تكفيه.. حتى نهاية كلّ شيء.
ثم يطالعنا مرّة أخرى في مرآته، ويعلو صوته:
والآن أنصحكم أن تنشغلوا أنتم أيضا بتجهيز زادكم، فقد تصدفنا محطّة أيّ منكم في أيّ وقت..
في أيّ وقت.
٣محرّم١٤٤٦