(هذه المقالة هي الجزء الأول من خواطر حول تربية الأبناء في ألمانيا)
استأذنتُ صديقتي للانصراف إلى بيتي قبيل أذان المغرب في التاسعة والنصف من نهار صيفيّ هامبورغيّ طويل. وقد انتهى درس الدين والعربية الذي تحضره بناتنا معا في بيتها. فألحّت عليّ أن أبقى أكثر خصوصا وأنّها عطلة نهاية الأسبوع. وبينما نحن نتناقش وأنا أردّ عليها بين الجدّ والمزاح: إنّ أولى علامات الأمومة هي التحوّل إلى حزب المصدوعين1 حتى ولو كنتِ لا تعرفين الصداع من قبل، تدخّلت في المحادثة أختٌ لها ثلاث بنات دون سن المدرسة، وحاصلة على تعليم عالٍ في سورية قبل أن تغادرها نهائيا منذ سبع سنوات.
قالت: ربما صداعك بسبب قلة النوم. من الغريب ألا تنامي، رغم أنّ بناتك -ما شاء الله- كبار.. حتى ابنك هادي جدا.
قلتُ لها: أنتِ في مرحلة صعبة حقّاً، وقد كنتُ مكانكِ يوماً، فالصغيرة لا تترك لكِ وقتاً للنوم..
قالتْ: وأختاها لا تتركان لي وقتاً في النهار، فهما في شدّ وجذب وخصومة ومشاكل طيلة الوقت.. وأنا أنتظر بالدقيقة ذلك اليوم الذي سيكبرن فيه جميعاً لأنام براحتي.
قلت: وهل تعتقدين أنّكِ ستنامين وقتها حقّاً؟ أعرف أمّهاتٍ (شبعن) نوماً، والنتيجة كانت واضحة في الأبناء: لقد شبعوا عثراتٍ ومطبّاتٍ ومآسٍ في الحياة.
يمكنك أن تنامي، لكنّكِ لو فعلتِ، ستندمين وقت لا ينفع الندم. إنّ (نوم) الأمّ معناه -باختصار- ضياع الأبناء، ولو بدا لكِ إني أبالغ.
هذا لو كنّا نتحدّث عن أمّ تعيش مع أبنائها في بلدٍ عربيّ مسلم، فما بالك ونحن في ألمانيا؟
…
لا أظنّكِ سمعتِ المثل الألمانيّ السائر الذي يلخّص منظومتهم التربويّة:
أبناء صغار، مشاكل صغيرة، أبناء كبار، مشاكل كبيرة!
وتفصيل هذه المنظومة يبدؤونه بجملة بسيطة: لا تنجبي! أي والله، ولا تقولي إنّ ألمانيا تشجّع الناس على الإنجاب، أرجو أن تفرّقي بين (سياسة) حكومة تحتاج إلى أيدٍ عاملة بأيّة طريقة لتحرّك عجلة الاقتصاد فتقدّمُ أموالا بسيطة مقابل ما ستحصده، وبين المفهوم المجتمعيّ، الذي يصف بلده بنفسه قائلاً: ألمانيا بلد غير ودود مع الأطفال. وهي ترجمة (ملطّفة) لكلمة (unfreundlich/غير صديق)!
فلو حدث وأنجبتِ، فلماذا تبقين في البيت مع الرضيع بينما يمكنك أن تصحبيه معك إلى حضانة العمل، أو تضعيه في حضانة حكومية؟ في كلا الحالتين ستكون هناك مربية تشرف عليه ولن تتعبي. لا بدّ أن تحافظي على وظيفتك فهي أهمّ ما لديك، إنها مصدر دخلك وأنك وحياتك وراتبك التقاعدي. وطبعاً عليك التكفل برسوم الحضانة الباهظة من هذا الراتب، ولكنها لن تكون مشكلة كبيرة بالنسبة لعامين أو ثلاثة، وبعدها ترسلين الصغير إلى الروضة الحكومية وهي تتكفل بمصاريف الساعات الخمس الأساسية، فإن كنت تعملين بدوام كامل أي ثمان ساعات، فتدفعين الفارق من راتبك. وكلما زاد دخلك كلما ارتفعت الرسوم التي عليك دفعها، ضريبة رفاهية.
أنهى الطفل الروضة؟ فلينتقل إلى المدارس الحكومية التي لا يوجد غيرها، فلا نظام للمدارس الخاصة هنا. وفي المدرسة الابتدائية، اختاري أن تضعيه في الفترة الأطول، من الثامنة صباحا وحتى الرابعة عصراً، فهذا كلّه مجّاني، ولو كانت ظروف عملك أصعب، فليبق حتى السادسة. هكذا، نضمن لكِ سيّدتي ألا تحتكّي بابنكِ ولا تريهِ إلا ساعة واحدة من اليوم -لو قرّر أن يجلسها معك-. أما في المدرسة الإعدادية، فليس عليك أن تفعلي شيئا لأنّ نظام المدرسة كدوام الموظفين، سبع إلى ثمان ساعات يوميّاً. ولو صدّع رأسك بمشاكله ونفقاته، أخرجيه من بيتكِ في أي عمرٍ شئتِ، فهناك نظام خاصّ لإقامة المراهقين المطرودين.
هل أخبرتكِ عن الملجأ الذي تقيم فيه زميلة ابنتي في الصفّ؟ إنّ والداها منفصلين، وكلاهما مرتبط بآخر، ولا يريد أي منهما أن يربّيها، تخيّلي؟! تعالج البنت عند طبيب نفسيّ، وتعيش في ملجأ مع بضعة أفراد من عائلات متفرّقة، في نظام يسمّى الأسرة الحاضنة. تذهب لزيارة أمها وزيارة أبيها مرة في الأسبوع وأحيانا لا تذهب.
ما أسهل التخلّص من طفل مشاكس لا تستطيعين السيطرة عليه. ولو كان هذا الطفل لعائلة مسلمة، لأغرقتهم الحكومة في دوامة من الأوراق والمعاملات والإجرائات والفحوص الطبية والاجتماعية، حتى يقع الطفل أو أهله في خطأ ما، أو تتغيّر نفسيته تجاه الإسلام فينفر منه ويترك الدين ويفرّ من بيت أهله. وقد حدث هذا ورأيناه.
فإذا بلغ الثامنة عشرة من عمره، فليس على أي منكما التعرّف إلى الآخر، ولو أنكرتِه أو أنكركِ فلا فارق، لأنّ الحياة هنا تعني ألا تكون هنالك علاقات عائلية من أيّ نوع.
لم تعجبكِ هذه المنظومة وتريدين أن تعيشي حياة الأمومة في بيتك وتربّي عيالك وتعيشي على نفقة زوجك؟ نأسف لذلك، إنّ اختياركِ يضرّ بالأمّة الألمانية التي تحتاج إلى أيدٍ عاملة يتمّ تصنيعها وتعليبها. ونحن نخبركِ أنّنا لن نرضى باختيارك هذا الذي يكفله لكِ الدستور، فالحرّية مكفولة لمن يمشي على هوانا فقط، ونؤكّد لكِ أنّنا سنعمل بكلّ قوّتنا على تنكيد حياتك، وإغراقكِ في المشاكل مع الدوائر الحكومية والمدارس والأطبّاء حتى تستسلمي وتسلّمينا أطفالك طواعية، وتنزلي إلى سوق العمل لتفقدي أعصابك وشخصيّتك وحياتك وتدمني التدخين والكافيين، أشهر علامتين للمرأة الألمانية.
الآن وقد فهمتِ هذه المنظومة، أعود بك إلى المثل الذي انطلقنا منه:
أبناء صغار، مشاكل صغيرة، أبناء كبار، مشاكل كبيرة!
لو أردتِ رأيي، فالكلام بظاهره صحيح، لكني أختلف مع المضمون. ففي الثقافة الألمانية، يفسّرونه بالتالي:
حين يكون الأطفال صغاراً، فمشاكلهم لا تتعدّى توفير اللباس والطعام والعلاج والرفاهيات، وبالتالي لا كثير من الإنفاق عليهم. أما حين يكبرون، فإنهم يستنزفون الأهل مادّياً، ويقعون في مشاكل المخدّرات والبلطجة والعصابات، وكلّما زاد عدد الأبناء كلما زاد الإنفاق.
إنّ الألمان يختصرون جانب الوالديّة في المال والرعاية، أمّا التربية، فهي حدث نادر جدّاً لا يكاد يُرى بين الأسر، لو وُجدتْ تلك الأسر.
لاحظي أنّ خطاب الحكومة كلّه في هذه المسألة موجّه إلى الأمّ عشر أضعاف الأب، فهم ليسوا حمقى. وهم يدركون أنّ خروج الأمّ إلى سوق العمل بداية، هو ضربة المعول الأساسيّة في هدم بناء الأمومة داخلها.
إنّها تحت ضغط النجاح وخوف التقييد والرغبة في المال والمنصب، والتشويه المستمرّ لصورة (ربّة البيت) واعتبارها امرأة (كسولا) لا تفعل شيئاً، تخنق رغبتها في الإنجاب. ثمّ لو حدث واستسلمتْ، لا تتمتّع بها، بل تعيش في شعور خانق من الإحساس بالذنب والخيبة.
والآن: لو أردتِ عزيزتي الأمّ المسلمة أن (تربّي) أبناءً في هذا المجتمع، هل تعتقدين أنّ لديكِ الوعي والفهم والقوّة الكافية لمجابهة هذا السيناريو والوقوف في وجهه من بدايته؟ وهل تعتقدين أنّك ستكونين قادرة على أن.. تشبعي نوماً؟!
- والصُّداعُ: وجَعُ الرأْس، وقد صُدِّعَ الرجلُ تَصْدِيعاً، وجاء ف الشعر صُدِعَ، بالتخفيف، فهو مَصْدُوعٌ. | لسان العرب. ↩︎